الكلمة واللوغوس والكون المبرمج في ضوء الفكر الديني والفلسفي والفيزيائي – نظرة شمولية

إنّ تاريخ الفكر الإنساني سلسلةٌ متشابكةٌ من المحاولات الدؤوبة لفهم الوجود ومكانة الإنسان فيه. هذه السلسلة تمتدّ منذ فجر التاريخ المدوَّن، حين بدأ الإنسان يتساءل عن أصل الكائنات، وعمّا يجعل هذا العالَم منسجمًا أو متنافرًا، وعمّا يُميّزه هو بوصفه كائنًا مدرِكًا وعاقلًا وقادرًا على التواصل. من هنا ينبع سؤالٌ محوريٌّ لم يَغِب قطّ عن ساحة الفكر: ما العلاقة بين اللغة (التسمية والكلام)، وبين أصل الوجود (المبدأ الخالق أو الناموس الكوني)، وبين قدرات العقل في قراءة العالم وفهمه؟
في تقاطع هذه الأسئلة، يظهر بُعدٌ يربط الديني بالفلسفي بالعلمي، ويجمع بين نظرياتٍ متعدّدةٍ تنتقل من عالم النص المقدّس إلى دنيا المنطق والحِجاج، ثم تصل إلى أروقة المختبرات العلمية ومراكز الأبحاث في الفيزياء النظرية. وفي المقابل، تنساب هذه المقاربات لتنعكس على فهمنا لماهيّة الإنسان نفسه: كيف وُهب القُدرة على “التسمية”؟ ما الدور الجوهريّ للكلمة في بناء الحضارات والثقافات؟ هل ثمة رابطةٌ جوهريةٌ بين “الكلمة” التي نعرفها في التعبير اللفظي، وبين “قوانين” أو “برمجيات” تتحكّم في مسار الكون والأحياء؟
يتأسّس هذا البحث على أربع محاور رئيسية:
- قدرة الإنسان على التسمية ودورها في تميّز الوعي البشري:
تلك القدرة التي يجسّدها قوله تعالى:
“وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا” (البقرة: 31)
والتي تُظهر نقلةً نوعيةً في تاريخ البشرية، حيث تحوّل الكائن الإنساني من صمتٍ غريزيٍّ إلى وعيٍ لغويٍّ مبدع.
- الكلمة بوصفها مبدأً أوّليًا في السياق الديني:
خصوصًا في المسيحية، حيث يَرِد في إنجيل يوحنا (1:1):
“فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ” لتصبح “الكلمة” (لوغوس) أصل الخلق وأساس الوجود، على نحوٍ لا يقتصر على المعنى النحويّ، بل يمتدّ إلى أصلٍ لاهوتيٍّ ميتافيزيقيّ. - اللوغوس في الفلسفة اليونانية:
إذ يحمل مفهوم اللوغوس عند هيراقليطس وأرسطو والرواقيين وغيرهم معاني متنوّعة تجمع بين العقل والنظام والمبدأ المنظِّم للعالَم، ما يربطه ارتباطًا وثيقًا بمنحى التفكير العقلي والمنطقي الذي يميّز الكائن الإنساني، ويعكس مرجعيةً تُضفي طابعًا كونيًا على الفكر الفلسفي. - الكون بوصفه نظام معلوماتي أو “منظومة مبرمجة”:
وهنا تأتي الفيزياء المعاصرة ـ من ميكانيكا الكم وصولًا إلى نظرية الأوتار الفائقة والنظريات المعلوماتية (It from Bit) ـ لتقدّم رؤى ثورية تشير إلى أنّ الواقع المادي قد يكون، في جوهره، بنيةً معلوماتيةً أو سلسلةً من التذبذبات المبرمجة بقوانين بالغة الدقّة.
إنّ دمج هذه المحاور الأربعة يفتح أفقًا رحبًا لرؤيةٍ شموليّةٍ يتداخل فيها الديني بالفلسفي بالعلمي باللغوي؛ رؤيةٍ تساعدنا على إعادة طرح الأسئلة الكبرى: كيف نفهم نشأة اللغة وتطوّرها؟ ما حقيقة “الكلمة” التي بها خُلقت الأشياء، أو التي بها نفسّر نحن الأشياء؟ وما موقع اللوغوس في عالَمٍ نشهد فيه ثورةً علميةً تجعلنا نؤمن بأنّ الكون أشبه ببرنامجٍ أو نصٍّ كونيٍّ يحتاج إلى من يقرأه؟ وأخيرًا، كيف يصبح الإنسان واسطة العقد في هذا المشهد الكوني، بوصفه الكائن القادر على “التلقّي” و”التسمية” و”الابتكار” و”التفسير”؟
في هذا الطرح الممتدّ على امتداد آلاف الكلمات، سنحاول تقديم أطروحةٍ متكاملةٍ، تتبنّى زاويةً تتعدّى القراءات التجزيئية، باحثةً عن خيطٍ ناظمٍ يوحّد بين هواجس النفس البشرية، وعمق المباحث الدينية واللاهوتية، وصيغ الفلسفة المنطقية، ونماذج الفيزياء الحديثة، وعلائقها بعلم اللسانيات. لعلّنا بذلك نقترب من صورةٍ كليةٍ تليق بالجهد الإنساني المستمرّ في التعرف إلى ذاته وكونه ومصيره.
الفصل الأوّل: الأساس الأنثروبولوجي للمعرفة — “وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا”
1.1 الإنسان بوصفه الكائن المسمّي
ورد في القرآن الكريم أنّ الله تعالى “علّم آدم الأسماء كلّها” (البقرة: 31). إنّ لهذه الآية دلالةً على أنّ قدرة الإنسان على تسمية الأشياء تمثّل خصيصةً جوهريةً في وجوده، وجسرًا بين عالم المادة وعالم الفكر. فالإنسان، حين يستطيع أن يضع “اسمًا” لشيءٍ ما، فإنّه يمارس فعلًا مزدوجًا: أولًا، يلحظ وجود ذلك الشيء ويميّزه عن سائر الكائنات “علم بالقلم” (العلق: 4) حيث التقليم هو القدرة على التمييز. ثانيًا، يختزل ماهيّته في رمزٍ لغويٍّ قابلٍ للتداول، يتيح نقل المعنى والمعلومة إلى الآخرين.
هذه الخاصية اللغوية تلعب دورًا جوهريًا في تكوين الوعي البشري؛ إذ إنّ اللغة لا تنحصر في كونها أداة تواصلٍ فحسب، بل تؤسّس لبنيةٍ معرفيةٍ إدراكيةٍ (Cognitive Structure) تسمح للعقل بترميز العالم الخارجي. ولولا الوعي باللغة، لظلّ الإنسان في نطاق المحسوسات المجرّدة، دون قدرةٍ على الانتقال إلى فضاء المجردات والمفاهيم الكلية. إنّ هذا التحوّل من “الصمت الحيواني” إلى “الكلام الإنساني” يتواكب مع ولادة الوعي الـ reflective، أي القدرة على التفكير في التفكير ذاته، واكتساب مسافةٍ عقليةٍ تتيح التأمل والنقد والتحليل.
1.2 اللغة والهوية الثقافية
منذ بدايات الفلسفة الإغريقية، تميّز الإنسان عن الحيوان بأنّه “حيوان ناطق” (Zoon Logon Echon). ولم تكن هذه العبارة مجرد توصيفٍ عابر؛ بل رأت في اللوغوس (الذي يترجم أحيانًا بالكلام، وأحيانًا بالعقل، وأحيانًا بالمنطق) مفتاحًا لشخصية الكائن البشريّ. إنّ القدرة على استخدام الرموز والتعابير، وإحالتها على عالم الأفكار، جعلت من الإنسان كائنًا ذا وعيٍ تاريخيٍّ يدوّن تراثه ويصوغه في أُطرٍ سرديةٍ وفكريةٍ جامعة.
تطوّر علم اللسانيات عبر القرنين التاسع عشر والعشرين ليؤكّد على ارتباط اللغة بالثقافة والقيم والرؤية العالمية. فنظريات سابير وورف مثلًا (Sapir-Whorf Hypothesis) ترى أنّ اللغة تؤطّر فهم المتكلّمين لها في إدراك الواقع؛ أي أنّ طُرُق التعبير في كلّ لغةٍ تُلقي بظلالها على طرائق التفكير والاستدلال. وبالرغم من الانتقادات التي طالت هذه الفرضية، إلّا أنّها تبيّن عمومًا المكانة المركزية للغة في بناء النماذج العقلية، وفي صياغة النظرة الكونيّة (Worldview).
1.3 التسمية في التراث الديني الإبراهيمي
لا تقتصر مسألة “تعليم الأسماء” على الإشارة القرآنية فحسب؛ إذ إنّ التوراة والأناجيل تقدّم مقارباتٍ أخرى لمسألة القدرة الإنسانية على الكلام والتسمية. ففي التوراة مثلًا، يُنسَب لآدم أنّه سمّى الحيوانات والكائنات، وكأنّ الله جلّ جلاله يُشرك الإنسان في مهمة “التعريف” و”إطلاق الأسماء” على موجودات الطبيعة. وهذه الرمزية ذات أبعادٍ أعمق من مجرّد إمساك آدم بقائمةٍ من المفردات: إنّها تشير إلى البعد التكامليّ بين الله والإنسان والعالَم، حيث يتقاسم الإنسان ـ بالمعرفة اللغوية ـ دورًا فريدًا في تحقيق مقاصد العناية الإلهية.
الفصل الثاني: في البدء كان الكلمة — البعد الديني واللاهوتي
2.1 “في البدء كان الكلمة” — الجذر المسيحي
يأتي نصّ إنجيل يوحنا (1:1) ليقول: “فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِندَ اللَّهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ هُوَ اللَّهُ”. لعلّ هذه الآية من أهمّ النصوص المؤسِّسة للاهوت المسيحي، إذ يُنظَر فيها إلى الكلمة (Logos) بوصفه أقنومًا إلهيًا يجسّد “المبدأ الخلّاق” الذي منه صدر الكون. إنّه ليس مجرّد “أمرٍ” لغوي، بل هو “حضرةٌ” إلهيةٌ أو وساطةٌ بين الله والعالَم، تلبّست في المسيح عليه السلام بحسب العقيدة المسيحية.
هذا المنظور يلتقي مع مفاهيم مشابهة في نصوصٍ أخرى من التراث المسيحي واليهودي؛ فالله ـ بحسب هذه النصوص ـ خلق العالَم بكلمة “ليكن نور”، فكان النور. إنّ فعل القول الإلهي يتطابق مع فعل الخلق، بطريقةٍ لا فاصل فيها بين الإرادة الإلهية وبين ظهور الشيء وتحقّقه. من هنا تنفتح مساحةٌ فلسفيةٌ واسعةٌ حول طبيعة هذه “الكلمة”: هل هي فكرةٌ عقليةٌ صرفٌة، أم هي جوهرٌ إلهيٌّ مستقلٌّ؟ وكيف نفهم العلاقة بين هذه الكلمة وبين الوجود المادّيّ؟
2.2 مصطلح “الكلمة” بين التوحيد واللاهوت
في الرؤية الإسلامية، يربط القرآن الكريم أيضًا فعل الخلق الإلهي بالكلمة، وإن كانت صورة فعل الخلق تتجلّى بمقولةٍ موجزةٍ بليغة: “كُن فَيَكُونُ”. هذه الصيغة تعبّر عن قدرةٍ مطلقةٍ لا تُضاهيها قيودٌ زمنيةٌ أو مادية؛ إذ يكفي أن يقول الله “كُن”، حتى يتحقّق الشيء في الوجود. ورغم أنّ “كُن” ليست حرفًا صوتيًا بالمعنى البشري، إلّا أنّ استخدامها في الخطاب القرآني يأتي للتقريب والتجسيد كي يستطيع العقل الإنساني استيعاب فكرة “الأمر الإلهيّ الخلّاق”.
أمّا في اللاهوت المسيحي، فإنّ “الكلمة” (Logos) لا تُختزل في كونها فعلًا أو أمرًا فقط، بل تمتدّ لتصبح “أقنومًا” (Hypostasis) يعبّر عن “العقل الإلهي” أو “الحكمة” التي تتجلّى في المسيح. ومن هنا، يجد قارئ النصوص الدينية نفسه أمام لوحةٍ تتنوّع فيها الدلالات، لكنها تشترك في التأكيد على محورية “الكلمة” كحلقة وصلٍ بين عالم الإله وعالم الخلق.
2.3 “كلمة” الخلق و”كلمة” الإنسان
إنّ الجمع بين نظرة التوحيد (حيث الخالق واحدٌ أحد) ونظرة اللاهوت المسيحي (حيث الكلمة أقنومٌ إلهيٌّ) يثير أسئلةً حول دور الإنسان. فإذا كانت “الكلمة” إلهيةً في البدء، فما موقع “الكلمة البشرية”؟ هل تشارك في الفعل الخلّاق أم تكتفي بالوصف؟ من المنظور الإسلامي، الإنسان يمارس خلافةً عن الله في الأرض (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)، فيتحمّل مسؤولية البناء والتعمير باسم الله وفقًا للقواعد الشرعية. أمّا في اللاهوت المسيحي، فالإنسان مخلوقٌ على “صورة الله” و”مثاله”، وهو يتلقّى كلمة الخالق ويجدّدها بالصلة الروحية التي يعبّر عنها الإيمان المسيحي.
في كلا التصوّرين، تشكّل اللغة ـ وبالتالي الكلمة ـ عنصرًا أساسيًا في الوجود الإنساني ومهمّته. إنّ الإنسان حين يتكلّم ويسمّي ويصنع المعاني ويبدع في الثقافة، يحقّق جزءًا من دوره الكونيّ في تجلّي “الكلمة الخلّاقة”، ولو على مستوى النسبيّ والمحدود. هكذا، تتجلّى فكرةٌ عميقة: أن تُخاطِب أو تُسمّي هو نوعٌ من المشاركة في فعل “الخلق” الرمزيّ، لأنّ اللغة لا تكتفي بعكس الواقع، بل تصنعه أو تهيّئه للوعي البشريّ.
الفصل الثالث: اللوغوس مبدأً عقليًا وكونيًا — من هيراقليطس إلى هايدغر
3.1 اللوغوس قبل أرسطو: هيراقليطس وبذور النظام الكونيّ
إنّ كلمة اللوغوس (Logos) في جذورها اليونانية جامعةٌ لمعانٍ متعدّدةٍ: فهي تعني “الكلام” (Speech)، و”العقل” (Reason)، و”الحساب” (Reckoning)، و”القانون” (Law)، و”المبدأ” (Principle). وربما كان الفيلسوف هيراقليطس (القرن السادس قبل الميلاد) أول من استخدمها على نحوٍ يربطها بالطبيعة؛ حيث رأى أنّ ثمّة “لوغوس” يسري في كلّ شيء، ويُشكّل المبدأ الخفيّ الذي يحكم التحوّل الدائم (Panta Rhei). فرغم تغيّر الأشياء باستمرار، فإنّ هذا “اللوغوس” هو الناظم، أو “المنطق الداخلي” للكينونة، إن جاز التعبير.
إنّ هيراقليطس يصف اللوغوس بأنّه سرمديّ (Eternal)، حاضرٌ في كلّ مكان، ومع ذلك لا يلاحظه معظم البشر لانشغالهم بالمظاهر السطحية. فهو يقارب اللوغوس كـ”كلمة” كونيةٍ لا تُعلِن عن نفسها صراحةً، بل تحتاج إلى عقلٍ متأمّلٍ ليرى كيف أنّ التنوع الظاهري يخضع لوحدةٍ خفيّة. ولعلّه بهذا يمهّد الطريق أمام فكرة تلاقي الكلمة (في بعدها اللغوي) بالعقل (في بعده الفلسفي) في وحدةٍ واحدةٍ.
3.2 أرسطو واللوغوس: الإنسان حيوانٌ ناطق
انطلاقًا من هيراقليطس، ستشهد الفلسفة الإغريقية تحولًا منهجيًا على يد أرسطو الذي صاغ رؤيةً موسّعةً للوجود والأخلاق والسياسة والمعرفة. في هذا الإطار، جاء تصنيفه الكلاسيكي للإنسان بوصفه “حيوانًا ناطقًا” (Zoon Logon Echon). كلمة “ناطق” في العربية ترجمها بعضهم بـ”عاقل”، ولكنها في الأصل الإغريقي تعني صاحب اللوغوس. إنّ هذا التحديد يضرب جذوره في الاعتقاد بأنّ ما يفصل الإنسان عن سائر الحيوانات هو قدرته على استخدام اللغة والبرهنة والمحاججة المنطقية.
إنّ “اللوغوس” عند أرسطو يرتبط بمفهوم “النوس” (Nous) أو العقل الفعّال أيضًا، والذي يُعَدّ مبدأ إدراك الأشياء في شكلها الكلّيّ والمجرّد. كذلك، فالمنطق (Logic) عنده هو الأداة الأساسية (Organon) للتفكير السليم، ما يجعل اللوغوس الأرسطي مسكونًا بالهندسة المنهجية، بعيدًا عن العشوائية. وفي حين أنّ هيراقليطس رأى في اللوغوس طاقةً كونيةً تحكم التدفق، نجد أرسطو يراه قدرةً عقليةً تحكم الذهن الإنساني وتميّزه بالتجريد والقواعد المنطقية.
3.3 الحقبة الرواقية وصولًا إلى الأفلاطونية المحدثة
بعد أرسطو، تبنّى الفلاسفة الرواقيون (Stoics) مفهوم اللوغوس بطريقةٍ أكثر صرامةً كحاكمٍ للعالم (Universal Reason)، معتبرين أنّ الطبيعة بعينها تخضع لهذا العقل الكوني الذي تتفرّع عنه “بذور” أو “مبادئ منطقية” في الأشياء. هكذا احتلّ اللوغوس مكانةً بين المادة والعقل الإنساني، بوصفه الرابط الذي يعطي المعنى والاتجاه.
بعد ذلك بعدّة قرون، ستظهر الأفلاطونية المحدثة على يد أفلوطين (Plotinus) الذي انطلق من فلسفة أفلاطون ليؤسّس نظامًا ميتافيزيقيًا يندرج ضمنه “العقل الكلّي” (Nous) الذي يفيض عن “الواحد” (The One). وهنا، يتقاطع مفهوم اللوغوس مع مفهوم الوجود العقلي السرمدي الذي تتجلّى فيه صور الأشياء (Ideas) قبل ظهورها في العالم المادّي. على الرغم من أنّ أفلوطين لا يستخدم كلمة “لوغوس” دائمًا بالمعنى الرواقي، إلّا أنّ فكرته حول “العقل” بوصفه قبسًا من الإلهيّ تقترب من التصوّرات التي نجدها لاحقًا في المسيحية حول علاقة المسيح ـ اللوغوس بالآب.
3.4 هايدغر والعودة إلى أصول اللوغوس
في القرن العشرين، عاد الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر (Martin Heidegger) إلى التنقيب في أصول الكلمات اليونانية الفلسفية، ولا سيّما مفهوم اللوغوس. رأى هايدغر أنّ الفهم السائد للمنطق (لوغوس) كمجرّد “الحكم” أو “القضية المنطقية” يبتعد عن أصل المفهوم الإغريقي، الذي يدلّ على “الإظهار” أو “الإنارة” (من فعل legein أي: جمع الأشياء والكشف عن حقيقتها). وبذلك، تتطابق “الكلمة” مع فعل كشف الحقيقة (Aletheia)، بدلاً من حصرها في مجرّد أداة تفكيرٍ شكليٍّ.
هذا الكشف ـ بحسب هايدغر ـ يقرّبنا من جوهر اللغة، إذ لا ينبغي فهمها بوصفها تجريدًا أو مجرد أسماءٍ لأشياءٍ، بل بوصفها فعلاً يتجلّى فيه الكائن (Being) على نحوٍ يجعله ممكن الوصف والتأمل. وهنا، تشارك اللغة في عملية “انكشاف” الوجود نفسه، فتغدو الكلمة جسرًا يعبّـر عن العمق الأنطولوجي للكينونة.
الفصل الرابع: الكون المبرمج — من الجينات إلى الأوتار
4.1 الثورة العلمية: من الذرّة الصلبة إلى المجالات الكمّية
منذ مطلع القرن العشرين، أُعيد تشكيل فهمنا للمادّة بعد اكتشافاتٍ جوهريةٍ في الفيزياء. فلم تعد الذرة كتلةً صلبةً كما تخيّلها الإغريق أو الفلاسفة الطبيعيون، بل تبيّن أنّها مكوّنةٌ من نواةٍ وإلكتروناتٍ في حالةٍ من الاحتمالات الكمّية. ومع تطوّر ميكانيكا الكم (Quantum Mechanics)، برزت ظواهر غريبةٌ كالثنائيات (موجة/جسيم)، واللايقين (Uncertainty Principle) عند هايزنبرغ، والتراكب الكمّي (Superposition)، والتشابك الكمّي (Entanglement)، وغيرها.
هذه الظواهر جعلت الفيزيائيين يعيدون النّظر في مفهوم “الواقع” نفسه. إذ بات من الممكن أن يقال إنّ الجُسيمات ليست مجرّد “أشياءٍ ماديةٍ تقليدية”، بل هي أشبه بحالاتٍ معلوماتيةٍ (States) ترتبط بدوال موجيةٍ (Wave Functions). وهذا يقودنا إلى التساؤل: هل الواقع المادّي عميقًا هو سلسلةٌ من المعلومات أو القوانين التي تتجسّد في جُسيماتٍ حين نقيسها؟
4.2 البرمجة الجينية: الـDNA بوصفه نصًّا بيولوجيًا
إنّ الحديث عن اللغة والمعلومات لا يقتصر على الفيزياء فحسب؛ ففي علم الأحياء الحديث، نعرف أنّ الـDNA يتكوّن من تتابعٍ من القواعد النيتروجينية (A, C, G, T)، وأنّ هذا التتابع يعمل بمثابة “كود” يُترجم في الخلايا إلى بروتيناتٍ ووظائفٍ حيويةٍ لا تنحصر. بعبارةٍ أخرى، كلّ خليةٍ حيّةٍ تحتوي “برنامجًا” جينيًا يرشدها في بناء الأعضاء وتنظيمها وعملها، على غرار الأوامر البرمجية في الحاسوب التي تحدّد سلوك البرامج.
إنّ قراءة الشيفرة الوراثية تكشف عن تشابهٍ في البنية مع الظاهرة اللغوية: إذ توجد “أبجدية” (Alphabet) مكوّنةٌ من أربعة حروفٍ كيميائية، وتتألّف منها “كلمات” (Genes) تتسلسل لتنتج “جُملًا” (Polypeptides and Proteins)، وتتعاضد مئات الآلاف من هذه “الجُمل” لتكوّن “النص” الكامل للكائن الحيّ. بهذا المعنى، لا يبعد تشبيه الـDNA بأنّه “نصٌ بيولوجيٌّ” يقوم عليه كتاب الحياة.
4.3 نظريات الأوتار الفائقة: موسيقى الأكوان المتعدّدة
في أواخر القرن العشرين، أخذت الفيزياء النظرية بُعدًا أكثر شمولًا مع ظهور نظرية الأوتار (String Theory) ونظيراتها المتقدّمة (M-Theory، وما بعدها). تفترض هذه النظريات أنّ الجُسيمات الأساسية كالإلكترون والكوارك ليست نقاطًا ماديةً بل أوتارًا ضئيلة الحجم تهتزّ بتردّداتٍ مختلفة. وإذا اختلفت نمطية الاهتزاز، نحصل على جسيمٍ مختلفٍ. ومن ثمّ، يصبح “التنوّع” في عالم الجُسيمات أشبه بعزفٍ مختلف النغمات على آلاتٍ متشابهة.
هنا يُطرَح سؤال: ألا يشبه هذا “التردد” و”الاهتزاز” كلماتٍ أو شيفراتٍ تتحكّم في بنية الوجود؟ إذ يمكن النظر إلى النظرية على أنّها تقول إنّ “الكون” كلّه يتكوّن من “أوتارٍ” تعزف لحنًا أو “سمفونيةً” كبرى، والقوانين الفيزيائية هي قواعد الهارموني والتناغم. فهذه الموسيقى الكونية لا تنفصل عن فكرة “الكلمة”: إنّها “لغةٌ” رياضيةٌ من الاهتزازات، تعبِّر عن جوهر الواقع بوصفه موجاتٍ من الطاقة/المعلومات.
4.4 “It from Bit”: من المادة إلى المعلومات
يرى الفيزيائي الراحل جون آرتشيبالد ويلر (John A. Wheeler) أنّ “كلّ شيءٍ مشتقٌّ من الـ(بت)” (Bit)، في إشارةٍ إلى أنّ المادة (It) في النهاية يمكن تحليلها إلى معلوماتٍ ثنائية (Bit). هذا التصوّر ينتمي إلى حقلٍ يُعرف بـ”الفيزياء الرقمية” (Digital Physics) أو “فيزياء المعلومات” (Information Physics). إذ يحاول أصحابه البرهنة على أنّ القوانين الأساسية للكون هي قوانين “معالجة المعلومات”، وأنّ البِتّ (الوحدة الأصغر للمعلومة الرقمية) هو المكوّن الجذري للوجود.
في هذا المنظور، يتوافق “اللوغوس” الفلسفي مع “المعلومات” العلمية، ويتقاطعان في القول بوجود “لغة” أو “برمجة” تتحكّم في سلوك الجسيمات والمجالات والطاقة. إنّ هذه البرمجة ليست بالضرورة “مكتوبةً” كما نكتب أكواد البرمجيات اليوم، ولكنّها تعبّر عن “منطقٍ كونيٍّ” يسبق ظهور الأشياء في هيئتها المرئية. ويذكّر هذا المنطق بفكرة “الكلمة” الخلّاقة في النصوص الدينية، وإن اختلفت سياقات التعبير.
الفصل الخامس: الإنسان كحلقة وصل بين الكلمة والكون
5.1 قراءة النصّ الكوني: امتياز الوعي الإنساني
لقد رأينا أنّ الكون يمكن اعتباره نصًّا “من كلمات الله” أو برنامجًا أو “سمفونيةً” من الأوتار والمعلومات. وبالمقابل، فإنّ الإنسان هو الكائن الوحيد الذي نعلم أنّه قادرٌ على التأمل في هذا النصّ، بل ومحاولة “فكّ شيفراته” عبر العِلم. هذه القدرة على القراءة تنبثق من “الوعي” (Consciousness) ومن اللغة الذهنية التي تمكّن الإنسان من تحويل الظواهر الحسيّة إلى نماذج عقليةٍ وفروضٍ علميةٍ. وهنا يلتقي “تعليم آدم الأسماء” مع “اللوغوس الأرسطي” و”الكلمة” في المسيحية وفكرة “المعلومات” لدى ويلر، لنكتشف أنّ الإنسان هو “قارئٌ” و”مفسّرٌ” لهذه “الكلمة الكونية”.
إنّ معظم الفلسفات والعقائد الدينية تتفق، في عمقها، على أنّ للإنسان مكانةً خاصةً في نظام الخلق؛ إذ يمتلك القدرة على الفصل بين الخير والشر، والصواب والخطأ، والعلمي والزائف، مستخدمًا أدواتٍ كـ”التسمية” و”الكلام” و”العقل”. ومن هذا المنظور، يمسي الإنسان رائدًا في فهم الكون، ما يطرح بدوره مسؤولياتٍ أخلاقيةً ومعرفيةً هائلةً، منها تجنّب العبث بالبيئة، ومنها تسخير العلم لما فيه النفع، لا الضرر.
5.2 العلاقة بين اللوغوس والإنسان في ضوء الفلسفة الحديثة
في حقول الفلسفة الحديثة والمعاصرة، أعاد مفكّرون أمثال إيمانويل كانط (Immanuel Kant) طرح قضية علاقة العقل بالواقع؛ إذ رأى أنّ للعقل البشريّ “مقولاتٍ” (Categories) تنظّم الخبرة، ولا يمكننا التعرّف إلى “الشيء في ذاته” على نحوٍ مستقلٍّ عن هذه المقولات. فإذا كان اللوغوس يُمثِّل مبدأً كونيًا موضوعيًا، فإنّ الإنسان لا يستطيع التحقّق منه إلّا عبر بُناه العقلية. بيد أنّ الفلاسفة الأكثر تجريبيّةً قد يشكّكون في قدرة العقل على الإحاطة بكلّ أبعاد اللوغوس الكوني، بسبب محدودية أدواتنا الإدراكية.
وفي مسارٍ آخر، يشير هايدغر إلى أنّ الإنسان ليس سيّد الكائنات، بل هو “الراعي” (Shepherd) للوجود، والذي يسمح بظهور الأشياء في اللغة. بهذا المعنى، تعود اللغة ـ أو الكلمة ـ إلى مركز الاهتمام بوصفها الأفق الذي تلتقي فيه الذات بالعالَم. تتكامل هذه الرؤية مع تصوّرات الفيزياء الحديثة للكون المبرمج؛ إذ يؤمن بعض الفيزيائيين بأنّ إدراكنا للعالَم جزءٌ من تشكُّل العالم ذاته على المستوى الكمّي (Interpretations of Quantum Mechanics).
5.3 البُعد الأخلاقي والروحي للغة والبرمجة الكونية
إذا كانت اللغة البشرية تسمح لنا بالانغماس في الواقع وتأويله، فإنّ البُعد الروحي أو الديني يضيف إلى هذا الانغماس بُعدًا أخلاقيًا ومعنويًا. ففي الرؤية الإيمانية التوحيدية، لا تنحصر “الكلمة” في جانبٍ وصفيٍّ للكون، بل تمتدّ لتكون تذكيرًا للإنسان بأنّ هذا الكون صادرٌ عن حكمةٍ عليا وإرادةٍ شموليةٍ. لذا، يصبح فعل “التسمية” أو “الخلق اللغوي” استعارةً عن قدرة الإنسان على القيام بدورٍ إيجابيٍّ في تنمية الحياة وحفظ التوازن.
علاوةً على ذلك، ثمّة بُعدٌ روحيٌّ في تصور “البرمجة الكونية”: إنّ كان ثمّة “كاتبٌ” أو “مبرمجٌ” أعظم لهذا الوجود، فإنّ معرفتنا باللوغوس أو النظام المعلوماتي ـ مهما تقدّمت ـ تبقى بمثابة تلمّسٍ جزئيٍّ لسطح الكتاب الشاسع. وهذه الرؤية تقترب من النصوص القرآنية التي تقول إنّ كلمات الله لا تنفد، ولو أنّ البحر نفسه صار مدادًا لها. إنّها دعوةٌ إلى التواضع المعرفيّ والإقرار بأنّ للعالَم أبعادًا لا نهائيةً تفوق آفاق عقولنا.
الفصل السادس: “كُن فَيَكُونُ” — البرمجة الإلهية في ضوء النصوص القرآنية
6.1 “كُن فَيَكُونُ” بوصفه أمرًا تكوينيًا مُطلَقًا
من اللافت في القرآن الكريم التكرار الصريح لعبارة: “كُن فَيَكُونُ” في عدة آياتٍ (مثل آل عمران: 47 و 59، والنحل: 40، ومريم: 35، ويس: 82، وغيرها). تُشير هذه العبارة إلى فعلٍ إلهيٍّ خارقٍ لا يخضع للتدرّج أو الحاجة إلى وسائطٍ. إنّه القول ـ بما هو إرادةٌ إلهيةٌ ـ الذي يوجِد الشيء من العدم. يتوافق ذلك مع “في البدء كان الكلمة” في إنجيل يوحنا، ومع المفاهيم الفلسفية التي تجعل من اللوغوس أو العقل الكلّي مبدأً سابقًا على الوجود المادي.
وبالنظر إلى العصر الحديث، يُشبَّه هذا الفعل الإلهيّ بـ”الأمر” (Run Build) الذي ينفّذه الحاسوب دفعةً واحدةً عند إدخال سطرٍ برمجيٍّ محدّد. وعلى الرغم من بساطة هذا التشبيه، فإنّه يساعد على استيعاب فكرة “الأمر المطلق” الذي يمتلك قوّةً فعّالةً، ما إن تُنطق حتى يتحقّق أثرها. وبالطبع، يظلّ الفرق شاسعًا بين القدرة الإلهية غير المحدودة والبرمجة البشرية المتناهية.
6.2 “كلمات الله: لا حصر لها”
ورد في القرآن الكريم قول الله تعالى:
” قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ” (الكهف: 109)
” وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيم ” ( لقمان: 27)
” إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ” (النساء: 171)
تعُبّر هذه الآيات عن اللانهائية في كلمات الله تعالى، أي في مظاهر خلقه وعلومه وأوامره. فإذا استحضرنا رؤية “الكون بوصفه نصًّا“، بدت هذه الآيات تعزيزًا لفكرة أنّ معارفنا الجزئية ـ مهما عظُمت ـ تبقى نقطةً في محيطٍ لا ينفد. وهذا يحيلنا إلى النقاش حول ما إذا كان إدراك “البرمجة الكونية” سيبلغ يومًا مستوى الإحاطة والشمول. الجواب القرآني واضحٌ: مستحيلٌ بلوغ ذلك الكمال. فيما الجواب العلمي: نقترب أكثر فأكثر، لكنّ حدودنا المعرفية والوجودية قد تمنعنا من الإحاطة الكاملة، إذ قد نكون جزءًا من النظام نفسه.
6.3 الرابطة بين “كُن فَيَكُونُ” والبعد التشريعي
بالإضافة إلى الجانب التكوينيّ في “كُن فَيَكُونُ“، هناك جانبٌ تشريعيٌّ يتجلى في النص القرآني عندما يُخاطب اللهُ عبادهُ بالأوامر والنواهي. فكما للوجود قوانينه الطبيعية، فإنّ الحياة الإنسانية لها قوانينها الأخلاقية المستمدّة من الوحي. ويمكننا استعارة فكرة “البرمجة الأخلاقية” التي تتقاطع مع “البرمجة الطبيعية“: إذ إنّ الإنسان يأتمر بفرائضٍ أوضحها الوحي، مثلما تلتزم الجُسيمات بقوانين الفيزياء. والفارق هاهنا أنّ الإنسان يمتلك إرادةً واختيارًا، ما يجعله مسؤولًا عن أفعاله، بعكس الذرّة التي لا تستطيع خرق قانون الجاذبية أو التفاعلات الكهرومغناطيسية.
الفصل السابع: التلاقح بين الفلسفة والفيزياء واللاهوت واللسانيات
7.1 تعدّدية المناهج المعرفية
إنّ الربط بين فكرة “الكلمة” (الدينية) و”اللوغوس” (الفلسفية) و”البرمجة الكونية” (العلمية) و”التسمية” (اللسانية) يستلزم تعدّديةً منهجيةً ثريّة. فلا يمكن لهذا الربط أن يُنجَز بالارتكاز إلى منهجٍ واحدٍ فقط؛ إذ إنّ كلّ مجالٍ له مفاهيمه وأدواته وبراهينه. ولكنّ الفكرة الأساسية تكمُن في محاولة تجاوز التخصّصات الضيّقة لنصل إلى رؤيةٍ تأمّليةٍ تُجيب عن أسئلةٍ شاملةٍ حول الوجود والمعرفة واللغة.
- اللاهوت: يركّز على البُعد الروحي والعلاقة بين الخالق والمخلوق، وعادةً ما يستخدم لغةً رمزيةً أو تأويليةً تتجاوز العالم الحِسّيّ.
- الفلسفة: توظّف التحليل العقلي والمنطق لإيجاد المعاني المشتركة وتكوين مفاهيم عامة حول الحقيقة والخير والجمال والوجود.
- الفيزياء: تعتمد المنهج التجريبيّ والرياضيّ لصياغة قوانين دقيقة تُفسّر الظواهر الطبيعية وتسمح بالتنبؤ والتطبيق التكنولوجي.
- اللسانيات: تدرس الظاهرة اللغوية بوصفها نظامًا من العلامات والرموز، وتركّز على بُنية اللغة ووظائفها الإدراكية والتواصلية.
من خلال هذا التلاقح، يمكننا القول إنّ الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يستطيع مزج هذه المناهج، لاكتشاف أبعادٍ جديدةٍ من الحقيقة. وإنّ الكلمة أو اللوغوس أو البرنامج الكونيّ ليست مفاهيم متباينة تماماً، بل هي انعكاساتٌ لرؤيةٍ واحدةٍ من جهاتٍ مختلفة.
7.2 دور الحدس والاستعارة
لا شكّ أنّ المسافة بين “كُن فَيَكُونُ” و”نظرية الأوتار” أو بين “في البدء كان الكلمة” و”لغة الـDNA” شاسعةٌ من حيث إطارها المفهومي وأدوات البحث فيها. ومع ذلك، فإنّ الحدس البشريّ ـ المدفوع بلغة الاستعارة ـ يجد خيوطًا يربط بها هذه الموضوعات. فالاستعارة تُمثِّل جسرًا مرنًا بين عوالم مختلفة؛ إذ يمكننا القول ـ استعارياً ـ إنّ الخلايا “تقرأ” معلوماتٍ جينيّةً كما يقرأ المبرمج تعليمات البرمجة، أو إنّ “الكلمة” في النصوص الدينية لها “دالة تنفيذ” (Execute Function) كالأوامر الرقمية. صحيحٌ أنّ هذا لا يعني التطابق الحقيقي في مستوى العمل الداخلي، لكنّه يسهّل لنا تقريب المعنى والإحساس بوحدةٍ مضمرةٍ بين هذه الحقول.
7.3 اللسانيات والفلسفة: هل اللغة “عاكسة” أم “خالقة”؟
برز سؤالٌ محوريٌّ في علم اللسانيات الحديث: هل اللغة مرآةٌ تعكس الواقع أم أنّها جزءٌ من آليات صناعته؟ يذهب التيار البنيوي (Structuralism) نحو القول إنّ اللغة نظامٌ يسبق الأفراد ويحدّد طرائق تفكيرهم، في حين يرى الاتجاه الوظيفي والإدراكي (Functional & Cognitive Linguistics) أنّ اللغة هي إحدى الأدوات التي يستخدمها العقل في عملية بناء المفاهيم.
إذا نقلنا هذا الجدل إلى مقامنا، نجد إمكانية القول إنّ “الكلمة” الدينية (“كُن فَيَكُونُ“)، و”اللوغوس” الفلسفي، و”البرمجة” الفيزيائية، كلّها تصوّر الواقع كمخرَجٍ لأمرٍ أو قانونٍ سابقٍ على الوجود المادّي الظاهري. بالمقابل، قد يعكس الإنسان الواقع باللغة، ولكنّه أيضًا يشارِك في صياغته ـ على الأقل على المستوى الاجتماعي والثقافي ـ من خلال التسمية والتأويل والتصنيف. ومن ثمّ، تتقاطع هنا ثنائيةٌ أخرى: هل اللغة البشرية هي صدى لـ”الكلمة” الإلهية الكونية، أم هي محاولةٌ لإعادة إنتاجها على نطاقٍ محدودٍ ونسبيّ؟ قد لا نجد إجابةً حاسمةً، لكنّه سؤالٌ يدفع إلى مزيدٍ من التأمّل والتعمّق.
الفصل الثامن: تطبيقات وتأمّلات معاصرة
8.1 الذكاء الاصطناعي والبرمجة: امتدادٌ لصورة الإنسان المسمّي
شهد العالم في العقود الأخيرة تقدمًا هائلًا في مجال الذكاء الاصطناعي وعلوم الحوسبة، حيث باتت البرمجيات تتعامل مع النصوص والبيانات وتستخلص منها نتائج فائقة التعقيد. ومن المفارقات أنّ الإنسان اخترع لغات برمجية تحاكي المنطق الرياضي (من الخوارزميات إلى الشبكات العصبية الاصطناعية)، ما أتاح للحواسيب التعلم والقيام بمهامّ تتطلّب قدرًا من “المعالجة الذكية”. هذا التطور يوسّع مفهوم “الكلمة” أو “اللغة” ليشمل لغاتٍ رقميةً غير بشرية.
إنّ هذه الطفرة التقنية تطرح سؤالًا فلسفيًا: هل يعني إنشاء آلاتٍ “تفهم” لغات البرمجة وتتعامل مع البيانات أنّنا نقترب من جوهر اللوغوس الكونيّ؟ أم أنّنا ببساطةٍ نستخدم جزءًا من اللوغوس البشري لابتكار أدواتٍ تُحاكيه؟ وفي حال وُجد “نصٌّ” كونيٌّ في قلب المادة والطبيعة، فهل سنصل يومًا إلى “ترجمةٍ” حاسوبيةٍ دقيقةٍ له؟ أم سيبقى دائمًا محتجبًا خلف حُجب التعقيد واللانهائية؟
8.2 الأخلاقيات البيولوجية وتحسين النسل
مع التقدّم في علم الجينات وتعديلها (Genetic Engineering)، ظهرت تحدّياتٌ كبرى تتعلق بالمسؤولية الأخلاقية. فالإنسان اليوم قادرٌ على “إعادة كتابة” شيفراتٍ جينيةٍ في المختبر، بما يشبه التدخّل في “نص الحياة” الذي كان محصورًا بالانتقاء الطبيعي عبر ملايين السنين. تقترب هذه القدرة من فكرة “لَعب دور الخالق“، فتُقلِق الكثيرين من احتمالات التلاعب غير المبرّر بعناصر الطبيعة أو بالتوازنات البيئية.
في ظلّ هذا المشهد، تزداد الحاجة إلى رؤيةٍ فلسفيةٍ ودينيةٍ تسأل: من يملك الحقّ في تعديل “كلمات” الخلق الجيني؟ وما الحدود المشروعة لهذا التدخّل؟ أليس في ذلك مجازفةٌ بتمزيق “البرمجة الكونية” المتوازنة؟ هذه الأسئلة الأخلاقية لا يمكن الإجابة عنها بأدوات العلم التجريبي فحسب؛ إذ تتطلّب حكمةً تتأصّل في فهمٍ أعمق لعلاقة الإنسان بخالقه وعالمه.
8.3 علم الكونيات الحديث: الانفجار العظيم والأكوان المتعدّدة
في مجال الكوسمولوجيا (علم الكونيات الحديث)، ثمة تصوّراتٌ حول الانفجار العظيم (Big Bang) باعتباره لحظة البداية التي تجسّدت فيها طاقاتٌ هائلةٌ وتحوّلت إلى مادةٍ وإشعاعٍ وقوانين طبيعية. يسأل بعض العلماء المؤمنين: هل كانت تلك اللحظة ـ قبل ما يزيد على 13.8 مليار سنة ـ بمثابة “كُن” كونيةٍ؟ وهل يمكن اعتبار القوانين الطبيعية (الثوابت الفيزيائية، سرعة الضوء، ثابت بلانك، وغيرها) “كلمات” كُتبت في سيناريو الخلق، حتّى يستمرّ الكون في التوسّع والتطوّر؟
من جهةٍ أخرى، طرحت نظرياتٌ حديثةٌ فكرة “الأكوان المتعدّدة” (Multiverse) حيث يمكن أن توجد أكوانٌ أخرى بقوانين مختلفة. فإذا صدقت هذه الفرضية، فهل يعني ذلك وجود “لغاتٍ” أو “برامج” كونيةٍ أخرى تحكم تلك الأكوان؟ وكيف نربط ذلك بفكرة الواحدية الإلهية أو “الكلمة الخلّاقة”؟ إنّ الأسئلة تتعمّق، وتستدعي مزيدًا من التنظير والفهم الميتافيزيقي.
الفصل التاسع: نحو رؤيةٍ توحيدية شاملة
9.1 “الوحدة في التعدّد” منظورًا فلسفيًا
إذا أردنا أن نضع خُلاصةً لما تقدّم، يمكننا القول إنّنا إزاء “تعدّدٍ” ظاهريٍّ قد يتوحّد في جوهره. فالإنسان يمتلك “اللغة” بوصفها آليةً للتسمية، والنصوص الدينية تحدّثنا عن “كلمةٍ إلهية” خلّاقة، والفلسفة الإغريقية تُطلق عليها اللوغوس، والعلوم المعاصرة ترى في الكون “برنامجًا” أو “موجات معلوماتية“. هذه التعدّدية تعبّر عن زوايا نظرٍ مختلفةٍ لظاهرةٍ واحدةٍ: وجود “نظام” سابقٍ على الإدراك البشريّ، يكسب الكينونات معناها، ويمكّننا من فهمها أو التواطؤ معها.
إنّ الفلسفة، بما هي حبُّ الحكمة، تبحث عن الوحدة خلف مظاهر التعدّد، وتحاول رسم خريطةٍ كليةٍ للتجربة الإنسانية. وفي هذا الإطار، تأتي فكرة “الكلمة” المشتركة بين النصوص الدينية والفلسفة والفيزياء بوصفها الخيط الواصل بين الأبعاد التي قد نراها متباعدةً. فهل هذا الخيط هو اللوغوس ذاته؟ أم هي فطرةٌ إنسانيةٌ تشتاق إلى المعنى؟ قد لا نجد إجابةً “علميةً” نهائيةً، لكنّه انكشافٌ لما يُسمّى في الفلسفة بـ”الإبيستيم الموحِّد” (Unifying Epistemology).
9.2 إمكانات الحوار بين الأديان والعلم
تاريخيًا، شهدنا صراعًا محتدمًا بين العلم والكنيسة في الغرب خلال القرون الوسطى وعصر النهضة، وكانت قضية مركزية الأرض أو دورانها، والتصادم مع رؤية غاليليو وكوبرنيكوس، أمثلةً جليّةً على ذلك. غير أنّ القرنين الأخيرين شهدا محاولات حثيثةً للمصالحة بين الدين والعلم، حيث يرى بعض العلماء المؤمنين أنّهما يجيبان عن أسئلةٍ مختلفةٍ: العلم يجيب عن “كيف” الأشياء، والدين يجيب عن “من” و “لماذا” الوجود. وفي العالم الإسلامي، طُرحت على مدى قرون قضايا تتعلّق بتوفيق النصوص الدينية مع النظريات الفلكية والطبيعية.
اليوم، تأتي فكرة “الكون بوصفه معلوماتٍ وكلماتٍ” لتخلق مساحةً جديدةً للحوار بين الأديان التي تكرّم “الكلمة” في خلق الوجود، والعلماء الذين يكتشفون “الشيفرات” والقوانين. يمكن لهذا الحوار أن يؤسّس لروحٍ جديدةٍ من التكامل بدلًا من الصراع، حيث يدرك رجال العلم والدين معًا أنّهما يتشاركان في الدهشة أمام نظام مهيبٍ، وأنّ اللغة الرمزية المشتركة ـ سواء سمّيناها “كُن” أو “لوغوس” أو “البرنامج الكوني” ـ ما هي إلّا تمظهرٌ لذلك المبدأ العميق.
9.3 دور الإنسان ومسؤوليته
إذا كان الإنسان كائنًا ناطقًا عاقلًا، يستطيع إدراك اللوغوس وقراءة “الكلمة” الكونية، فإنّ عليه مسؤوليةً جِسيمةً ألا وهي: كيف يستخدم هذا الإدراك؟ إنّ الإبداع التكنولوجي والتقدّم العلميّ قد سمح للإنسان باستخراج قدرات الطبيعة إلى حدٍّ مدهشٍ، لكنّه أيضًا وضعنا أمام تحدياتٍ وجوديةٍ (كالأسلحة النووية، والتغيّر المناخي، والذكاء الاصطناعي المتقدّم). في كلّ هذه التحديات، يتقدّم سؤال الأخلاق والقيم، والذي لا يمكن تجاهله بحجّة “الموضوعية العلمية” وحدها.
من ثَمّ، يبدو الإنسان مدعوًّا إلى التعامل بحكمةٍ مع “الكلمات” التي فكّ شيفرتها، سواء كانت جينيةً أو كونيةً، وإدراك أنّها ليست لعبةً بلا حدودٍ، بل أمانةٌ تتطلّب التصرّف وفق مبادئٍ عليا تكفل استمرار الحياة والارتقاء بها.
الفصل العاشر: آفاقٌ مستقبلية وختامٌ تأمّليّ
10.1 نحو عِلمٍ كليٍّ لتفسير الكلمة واللوغوس والمعلومات
عطفًا على كلّ ما سبق، يمكننا تخيّل نشوء مجالٍ دراسيٍّ جديدٍ يتخطّى الحواجز التقليدية بين الفيزياء والفلسفة واللاهوت واللسانيات، ويُعنى بدراسة “البنية المعلوماتية” للكون في تلازمٍ مع “البنية الرمزية” للغة الإنسانية. مثل هذا المجال، إن تبلور منهجيًّا، قد يستوحي من علوم “اللسانيات الكونية” (إن جاز التعبير) أو “الميتافيزيقا المعلوماتية“، ليجيب عن أسئلةٍ حول كيفية توحيد فهمنا “لكلمة الخلق” و”لكلمة الإنسان” في لوحةٍ واحدة.
قد يبدو هذا الطموح خياليًا لدى البعض، لكنّه يعكس التوق الإنساني العميق إلى البحث عن المعنى الشامل. فلئن استطاعت الفيزياء الكمّية والنسبية توحيد بعض القوى أو تفسير ظواهر معقّدةٍ، فما يمنع نشوء “نظرية كبرى” تُفسِّر كيف أنّ اللغة البشرية والأوامر الإلهية والقوانين الفيزيائية تتواشج في نظامٍ كلّي؟
10.2 حدود المعرفة وفضاءُ الأسرار
في كلّ مشروعٍ فكريٍّ كبيرٍ، نقف أمام أفقٍ لا متناهٍ من التساؤلات والأسرار. فمهما تعمّقنا في دراسة الخلق بوصفه “كلماتٍ” أو “رموزٍ“، سيبقى السؤال قائمًا: هل يوجد “مؤلفٌ” أو “مبرمجٌ” خارج هذا النصّ؟ وكيف نحدّد صفاته؟ وما مدى قابلية هذه الصفات للإدراك العقليّ أو الصوفيّ؟ هذه الأسئلة تدخل بنا مضمار الفلسفة الأولى أو الميتافيزيقا، التي لا يمكن للعلم التجريبيّ وحده أن يحسمها. وهذا بحدّ ذاته اعترافٌ بمحدودية الأطر النظرية، ودعوةٌ إلى الانفتاح على رحابةٍ ميتافيزيقيةٍ وروحيةٍ.
إنّ النصوص الدينية المتعدّدة ـ من القرآن والإنجيل والتوراة، إلى أحاديث الأنبياء وحِكم الحكماء ـ تشير مجتمعةً إلى أنّ سرّ الوجود موصولٌ بسرّ الكلام والإرادة الإلهية. وقبل أن نقول إنّ العلم المعاصر قد اقترب من “وضع اليد” على هذا السرّ، علينا أن نذكر أنّ كلّ اكتشافٍ علميٍّ جديدٍ يفتح أبوابًا أوسعَ للجهل المكتشَف، ويشير إلى حقولٍ جديدةٍ من الظواهر التي نجهل تعليلها. ومن هنا، يصبح اللامتناهي في النص القرآني:
” قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ” (الكهف: 109)
” وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيم ” ( لقمان: 27)
متطابقًا مع خبرة العلماء المستمرّة بأنّ ما نجهله أضعافُ ما نعرفه.
10.3 خلاصاتٌ وتأمّلات
- الكلمة والتسمية:
أدركنا أنّ “تعليم الأسماء” للإنسان هو أصلٌ عميقٌ لوعيه وتميّزه، وأنّ اللغة ليست أداةً ثانويةً بل ركيزةٌ في بناء المعرفة والثقافة والهوية. - في البدء كان الكلمة:
في النصرانية، يتجلّى الكلمة (Logos) بوصفه قوّةً إلهيةً أصيلةً، وفي الإسلام، يتجلّى في “كُن فَيَكُونُ“، وفي الفلسفة اليونانية وُضع كأساسٍ للعقل والنظام الكونيّ. - اللوغوس:
بُعدٌ عقليٌّ ومنطقيٌّ يوحّد الوجود، امتدّ من هيراقليطس إلى أرسطو والرواقيين وأفلوطين وهايدغر، محافظًا على جوهره كـ”كشفٍ” أو “نظامٍ” يتخطّى المظاهر الجزئية. - الكون المبرمج:
ثورة العلم الحديث (الـDNA، ونظريات الكمّ والأوتار، وفيزياء المعلومات) تعيد تعريف المادة والواقع بوصفهما ـ في العمق ـ معلومةً أو شيفرةً أو اهتزازًا، ما يقارب لغةً كونيةً أو برمجةً عليا. - الإنسان حلقة وصل:
هو الوحيد الذي يقرأ النصّ الكونيّ ويحاول فكّ رموزه، مستثمرًا قدرته اللغوية والمنطقية، ومسؤولًا أخلاقيًا عن هذا العلم والإدراك. - آفاق التكامل:
تلاقي الديني بالعلمي بالفلسفي باللساني يفتح أفقًا جديدًا لتفكيرٍ شاملٍ ومفتوحٍ، بدلًا من الحصر في ثنائياتٍ متصارعةٍ.
في ضوء ذلك، يمكننا أن نستشرف مستقبلًا قد يشهد اهتمامًا أكبر بهذه “الفلسفة الكونية” الجامعة. فبدلًا من أن تظلّ اللغة أسيرة قسم اللسانيات في الجامعات، واللوغوس قابعًا في تاريخ الفلسفة، و”كُن فَيَكُونُ” في الخطاب الديني، و”الأوتار” في أقسام الفيزياء النظرية، قد نرى منظوماتٍ بحثيةً تتعاون عبر تخصّصاتٍ متعدّدةٍ لفهمٍ أعمق لحقيقة واحدةٍ. وربما يتجسّد ذلك في معاهد أو مؤتمرات أو دراساتٍ عليا تبحث جذور “المعلومة” و”اللغة” و”التعبير” و”التكوّن“، وتستفيد من تطوّر الذكاء الاصطناعي في تحليل البيانات والنصوص الدينية والفلسفية والفيزيائية على حدٍّ سواء.
في النهاية، يبقى الإنسان هو العنصر الأهمّ في هذه اللوحة، بحسّه التأمّليّ وبحثه المستمرّ عن “المعنى” الكامن خلف الظواهر. ولعلّ السرّ الأكبر أنّنا، نحن البشر، نسعى بلهفةٍ للعثور على “الكلمة” الأصيلة التي تفسّر لنا الذات والعالَم، فإذا بنا نكتشف أنّ في داخلنا “قابليةً لغويةً” (على حدّ تعبير تشومسكي) وفطرةً معرفيةً (على حدّ تعبير النصوص الدينية) تدفعنا قُدُمًا في مسيرة كشف الأسرار. وتظلّ هذه الرحلة مستمرّةً ما دام في الإنسان نبضٌ من الحياة ومن الإرادة.
إنّه صدى القديم في ثوبٍ جديدٍ: “في البدء كان الكلمة“، و”علّم آدم الأسماء كلّها“، و”اللوغوس” هو البداية والنهاية، و”الكون” نصٌّ ضخمٌ لا ينتهي، يتطلّع إلى قارئٍ واعٍ ومحبٍّ للمعرفة. ثمّة جِدّةٌ في أدوات البحث وسبله، لكنّ الدافع الأساسي ـ أعني دهشة الإنسان وسعيه لفهم لغز الوجود ـ لم يتبدّل منذ نشأت الكلمات الأولى إلى اليوم. وهكذا، إذ ندرك دور “التسمية” و”الكلمة” و”اللوغوس” في نحت مسار التاريخ البشريّ، ندرك أنّ هذا التاريخ في جوهره حوارٌ مع كينونةٍ أكبر، وأنّ الإنسان فيه ليس إلا كاتبًا صغيرًا في دفترٍ لا حدود لصفحاته.
خاتمة
إنّ هذه الأطروحة حاولت أن ترسم ملامح رؤيةٍ شاملةٍ تنطلق من التسمية بوصفها تجسيدًا لوعي الإنسان، مرورًا بـالكلمة الدينية التي تُضفي بُعدًا ميتافيزيقيًا على فعل الخلق، ثمّ بـاللوغوس الفلسفيّ بوصفه عقلًا ونظامًا كونيًا، وصولًا إلى فكرة الكون المبرمج في الفيزياء المعاصرة، حيث تصبح المعلومة والطاقة وجهين لعملةٍ واحدة. في ظلّ هذه التشابكات، يلوح أنّ الإنسان، بعقله ولغته وروحه، هو الوسيط الذي يربط الأبعاد كلّها، فهو المدعوّ إلى “قراءة” هذا النصّ الكونيّ، ومساءلة “الكلمة” الخفية في أعماق الوجود، ومسؤولٌ عن قراءته قراءةً أخلاقيةً تحترم حرمة الكون والحياة.
هكذا يتجلّى الموضوع في صورةٍ مترابطةٍ، تلتقي فيها الأديان والفلسفات والعلوم واللسانيات في نقطةٍ مفصليّةٍ: إنّ “اللغة” ـ بمعناها الواسع ـ تحرّك الوجود البشريّ، وتمنح للعقل إمكانية البحث عن الكُليّات والمعاني الكبرى، بينما تتواطأ قوانين الطبيعة مع “كلمات” غامضةٍ تنظم الحركة والزمان والمكان. ويبقى الإنسان، بعينَين شاخصتَين إلى السماء، يتساءل: هل ستتبدّد الظلمات عن أسرار “الكلمة” الأولى، أم أنّ سحرها سيظلّ حاضرًا، يجعلنا في كلّ كشفٍ علميٍّ نزداد عطشًا إلى مزيدٍ من المعرفة والدهشة؟
تلك ثنائيةُ الإدراك واللغز التي رافقتنا منذ “علّم آدم الأسماء” وستبقى ترافقنا ما دامت الكلمة تنبض في عالمنا، وما دام اللوغوس حيًّا فينا.
﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ (فصلت: 53)
انتهى
كتبت بواسطة تشات جي بي تي