في دهشةِ الجمال: تأملات فلسفية في عالم الطبيعة والروح – قراءة فلسفية لقصيدة رابندراناث طاغور وتأمّلاته الكونية

منذ فجر التاريخ، شُغِل الإنسان بفكرة الجمال وبمحاولة فهم طبيعته وأبعاده. فما إن تطلّع البشر إلى السماء وشاهدوا شروق الشمس وغروبها، أو تأملوا نجوم الليل المتلألئة، أو أصغوا إلى ترنيم الطيور في الصباح، حتى وُلد في نفوسهم شعور بالدهشة والإعجاب يقودهم إلى التساؤل عن ماهية “الجمال” وأسبابه: هل هو صفة موضوعية في الشيء نفسه؟ أم هو شعور ذاتي ينشأ في وجداننا؟ وهل هناك علاقة بين جمال الطبيعة وجمال الفنون وجمال الأخلاق؟ كل هذه الأسئلة شكلت أساس ما يُعرف اليوم بـ”فلسفة الجمال” أو “علم الجمال” (Aesthetics). في هذه المقالة المطوّلة، سنسعى لاستكشاف فلسفة الجمال من منظور تاريخي ومعاصر، مستشهدين بالعديد من الأمثلة والشواهد والحجج التي صاغها الفلاسفة والمفكرون على مر القرون. كما سنُفرد مساحة لتحليل بعض الأبيات الشعرية من هذه القصيدة التي تحتفي بالجمال للشاعر الكبير طاغور:
السماءُ تفيضُ بالشمسِ والنجوم،
والكونُ يعجُّ بالحياة،
وفي خضمِّ هذا الامتلاء، وجدتُ مكاني،
وفي دهشةٍ وانبهارٍ، أغنّي.يتمايلُ العالم
بمدِّ الأزلِ الهادر،
يعلو ويهبطُ،
وقد شعرتُ بشدِّ تيارهِ في دمي
يدفعه في عروقي.
وفي دهشةٍ وانبهارٍ، أغنّي.حينما سرتُ في أحراجِ الغابات،
لامستُ بأقدامي العشب النديّ،
فأدهشتني روائحُ الأزهار،
وأسكرت عقلي حتى الجنون،
فإنّ هباتِ الفرح والبهجة
تتناثرُ في كلِّ مكان،
وفي دهشةٍ وانبهارٍ، أغنّي.أرهفتُ سمعي،
وفتحتُ عينيَّ،
وكشفتُ قلبي للعالم،
في قلبِ المعلوم
بحثتُ عن المجهول،
وفي دهشةٍ وانبهارٍ، أغنّي.
إن هذه الأبيات تعبِّر عن ذهول الشاعر إزاء عظمة الكون بما يحويه من ظواهر طبيعية وأسرار حياة. الشاعر هنا يعكس لحظة إشراق وتأمل جمالي في الوجود، يترجمها بالغناء والدهشة. سنناقش في ثنايا المقالة علاقة هذه الحالة التأملية بفلسفة الجمال، وكيف يمكن لفكرة “الدهشة” (Wonder) أن تشكل جوهر التجربة الجمالية، وما إذا كان الجمال يرتبط بالموضوع أم بالذات أم بالعلاقة القائمة بينهما.
الجمال في الفلسفة القديمة
1. الجمال عند أفلاطون
يُعد أفلاطون (427-347 ق.م) أحد أقدم الفلاسفة الذين طرحوا تأمُّلاتٍ عميقةً في مفهوم الجمال. ففي محاورته الشهيرة “المأدبة” (Symposium)، يناقش فكرة “الحب” والجمال بوصفهما مترابطين لا ينفصلان؛ إذ يُشير إلى أن الجمال الحقيقي ليس مجرد هيئة حسية بل هو فكرة مُطلقة تتعالى على المحسوسات. ووفقًا لأفلاطون، فإن الجمال في عالمنا المادي ليس سوى ظل أو انعكاس للجمال المثالي (أو الوجود المثالي) في عالم المُثل. وبالتالي، كلما اقتربت المادة من تحقيق هذه الصورة المثالية للجمال، ازداد نصيبها من الجمال.
ولعل الأبيات الشعرية التي بين أيدينا تشير في بعض معانيها إلى وجودٍ أوسع وأكمل من الظاهر؛ فالسماء الممتلئة بالنجوم والشمس، والحياة التي تملأ الكون، ليست إلا لمحة من ذلك التجلي الكوني العظيم. هنا يمكن أن نستعيد مفهوم أفلاطون بأن الظواهر الطبيعية ما هي إلا مظاهر، تحثّنا على تذكُّر الجمال الأعلى الكامن في عالم المثال، ولعل “الدهشة” التي يعرب عنها الشاعر في كل مقطع تؤكد تلك الرغبة الروحية لدى الإنسان للاتحاد مع ذلك الكمال الماورائي.
2. الجمال عند أرسطو
أرسطو (384-322 ق.م)، تلميذ أفلاطون، قدّم لنا رؤية مختلفة عن معلمه. ففي كتبه مثل “فن الشعر” (Poetics) و”الأخلاق النيقوماخية” (Nicomachean Ethics)، اهتم أرسطو بالجمال بوصفه مرتبطًا بالتناسق والانسجام والاعتدال. فالجمال – بحسب أرسطو – يُمكن ملاحظته وتذوُّقه في الأعمال الفنية والطبيعية على السواء، وهو قائم على مبادئ مثل التناسب والتناسق. ورغم أن أرسطو يعترف بأن للتأمل العقلي دورًا في تقدير الجمال، إلا أنه يقرّ كذلك بمركزية الحس والتجربة المباشرة في ذلك التقدير.
وقد نجد في سطور القصيدة ما يعكس هذا المنظور الأرسطي؛ إذ إن الشاعر يصف تتابعًا متناسقًا للأحداث والمشاهد الطبيعية: سماء تزدان بالشمس والنجوم، الكون يموج بالحياة، النهر الكوني يعلو ويهبط، والإنسان في خضمّ كل هذا يجد نفسه في حالة من التأمل العميق. هذه اللوحة المتناسقة من الألوان والروائح والأصوات والأحاسيس تشكل نسيجًا متكاملاً يثير الدهشة.
الجمال في الفلسفة الوسيطية والإسلامية
1. الفلسفة المسيحية المدرسية
في القرون الوسطى، سعى المفكرون المسيحيون كـتوما الأكويني (1225-1274) إلى الجمع بين الفلسفة الإغريقية والرؤية المسيحية. وقد رأى توما الأكويني أن الجمال مرتبط بالخير والحقيقة، وأن الله هو المصدر الحقيقي لكل جمال. فالله يمثل الخير الأقصى، والحقيقة المطلقة، وهو بالتالي الجمال الكامل. من هنا، صارت نظرة الإنسان إلى جمال الطبيعة والفنون موجهة نحو معرفة الله وتأمل صفاته.
هذا المنظور الديني يمدّ الجمال ببعدٍ ميتافيزيقي عميق: فالتأمل في جمال الطبيعة قد يقودنا إلى الخالق. ويمكن مقارنة ذلك بالدهشة التي يشعر بها الشاعر في القصيدة؛ إذ تبدو السماء والأرض والزهور بمنزلة دلائل على قوة أكبر أو أسرار كونية تتجاوز ما هو مادي، فتُلهِم الشاعر للغناء في “عجب ودهشة”.
2. الجمال في الفلسفة الإسلامية
شهدت الحضارة الإسلامية إسهامات مهمة في فلسفة الجمال، تمثلت في نتاج الفارابي (870-950) وابن سينا (980-1037) وابن رشد (1126-1198) وغيرهم. تأثر هؤلاء بالفكر اليوناني، ولكنهم مزجوه برؤية إسلامية تجعل من الجمال شاهدًا على قدرة الله وإتقانه.
على سبيل المثال، ابن سينا رأى أن الجمال يتجلى في تناسق الأجزاء وتناسبها، سواءً كنا نتحدث عن جسم إنسان أو مقطوعة موسيقية أو لوحة فنية، وكلما اقترب هذا التناسق من الكمال صار الشيء أكثر جمالًا. كذلك أشار ابن رشد إلى أن الله جميلٌ يُحب الجمال (حديث منسوب إلى الرسول ص)، وأن في إدراك الإنسان لجمال الخلق نوعًا من الإدراك العقلي والروحي معًا.
وفي قصيدتنا، حين يتحدث الشاعر عن عبوره في الغابات وشعوره بالانتشاء نتيجة ملامسة الحشائش واستنشاق عطر الزهور، يمكن أن نرى صدى هذا الموقف في النظرة الإسلامية؛ إذ إن هذه الدهشة بالجمال الطبيعي هي توجه فطري في النفس، يدفع الإنسان إلى التأمل والخشوع أمام القدرة الإلهية أو أمام المبدأ الكوني الذي أنتج هذا الجمال.
فلسفة الجمال في العصر الحديث
1. إيمانويل كانط (1724-1804) ونظرية الحُكم الذوقي
تُعتبر فلسفة كانط للجمال (أو الذوق) منعطفًا مهمًا في التاريخ الحديث. ففي كتابه “نقد ملكة الحكم” (Critique of Judgment)، يقدم كانط مفهومًا فريدًا للجمال بوصفه حُكمًا تأمليًّا ذاتيًّا يتميز بخصائص أهمها:
- اللاذاتية (disinterestedness) : حين نحكم على شيء بأنه جميل، فإننا لا نسعى إلى أي مصلحة شخصية أو منفعة؛ بل يكون تقديرنا خالصًا.
- الشمولية (Universality): مع أن الحُكم بالجمال ينبع من الذات، فإننا نتوقع من الآخرين مشاركتنا في هذا الشعور، كأننا نقول: “هذا الشيء جميل، وستوافقني على ذلك لو تأملته!”
- الضرورية (Necessity): إحساسنا بالجمال يأتي من تذوق التناسق والانسجام في الشيء، حتى لو لم يكن له غرض عملي أو نفعي.
في ضوء ذلك، يمكن إعادة قراءة القصيدة: الشاعر يعبِّر عن دهشته في كل مقطع، ولكن دهشته ليست موجهة لتحقيق غرض معين سوى التعبير عن “عجبه وذهوله”. فهو ينغمس في جمال المشاهد الطبيعية من حوله – السماء، النجوم، العشب، الأزهار – دون أن يطلب منها منفعة مادية. إن الدافع وراء غنائه هو إحساس بالانسجام الكوني، ورغبة في التواصل مع “الكل” الذي يحيط به، وهذا يشبه إلى حدٍّ كبير فكرة كانط عن “اللاذاتية” و”التأمل الخالص”.
2. هيغل (1770-1831) والجمال بوصفه تجليًا للروح المطلقة
يأتي جورج فيلهلم فريدريش هيغل برؤية جدلية شاملة ترى في الفن والجمال مرحلة من مراحل تجلي “الروح المطلقة”. فبالنسبة لهيغل، الجمال الفني أكثر صفاءً وسموًا من الجمال الطبيعي؛ لأنه تعبير واعٍ عن الفكرة، بينما الجمال الطبيعي يبقى عفويًّا وغير واعٍ. ومع ذلك، يبقى الجمال الطبيعي مظهرًا من مظاهر روح الكون.
يتردد صدى هذه الفكرة في القصيدة حين يشير الشاعر إلى أنه “فتح أذنيه وعينيه” وباح بقلبه للعالم، ساعيًا إلى اكتشاف “المجهول” في قلب “المعلوم”. هناك إشارات هيغيلية إلى أن التجربة الجمالية ليست مجرد انعكاس سلبي للطبيعة في الذات، بل هي لحظة إدراك عميق لحقيقة أوسع، تتجاوز المظاهر السطحية نحو ما هو جوهري وكوني. إن هذا البحث عن المجهول وسط المعلوم يعبر عن رغبة الروح الفردية في الاتحاد بالروح الكلية.
3. فريدريك نيتشه (1844-1900) والجمال بوصفه إرادة قوة وحيوية
في المقابل، نجد فريدريك نيتشه يتناول مفهوم الجمال من زاوية مختلفة، إذ يربطه بمفاهيم القوة والحياة والخلق الفني. يرى نيتشه أن الجمال لا ينفصل عن الإرادة البشرية الحرة وعن “الدافع الدينوني” (نسبةً إلى ديونيسوس إله الخمر والنشوة في الأساطير اليونانية). وفي كتابيه “مولد المأساة” و”هكذا تكلم زرادشت”، يؤكد نيتشه أن الجمال العظيم ينبثق من التوتر بين الديونيسي (النشوة، الفوضى، الإبداع) والأبولوني (التناسق، الاعتدال، الشكل).
إن ذكر الشاعر في القصيدة بأنه “يُجنّ” من عطر الأزهار، وأن عقله يكاد يطير من فرط الدهشة، يشير إلى تلك الحالة الديونيسية من الانتشاء بالحياة والمظاهر الحسية، وهي حالة تمثل في فلسفة نيتشه لحظة الخلق الفني الحقيقية، حيث تذوب الذات في لذّة جمالية تكسر كل الحدود التقليدية.
محور الدهشة في التجربة الجمالية
إذا قرأنا القصيدة بتمعُّن، نجد أن كلمة السر في جميع المقاطع هي “الدهشة” أو “العجب” (Wonder). فالشاعر يقول مرارًا وتكرارًا: “And in wonder and amazement I sing” (وفي عجبٍ ودهشةٍ أغنّي). هذا الشعور المركزي بالاندهاش هو الخيط الذي يجمع التجارب الجمالية في تاريخ الفلسفة.
- عند أفلاطون، الدهشة هي بداية الفلسفة، وهي التي توقظ العقل للسعي إلى الحقيقة والجمال المثالي.
- عند أرسطو، الدهشة أيضًا هي شرارة البحث الفلسفي، وهي نابعة من ملاحظة التناسق في العالم الطبيعي.
- عند كانط، لحظة الدهشة تتحول إلى حكم تأمّلي يتسم باللاذاتية والكلية الذاتية.
- عند هيغل، الدهشة بالجمال هي لحظة انكشاف للروح المطلقة في المحسوس.
- عند نيتشه، الدهشة يمكن أن تكون اندفاعًا حيويًّا نحو القوّة والإبداع، خارجة عن كل الضوابط المألوفة.
ليس غريبًا إذن أن تشكل “الدهشة” المرتكز الأهم في هذه القصيدة، فهي تحكي تجربتنا الوجودية حين نواجه جمال الطبيعة، أو جمال العمل الفني، أو حتى جمال القيم السامية. إن الإنسان حين يتوقف للحظات ليتأمل شروق الشمس أو يحدّق في قوس قزح أو يستمع إلى سيمفونية باخ أو يصغي لقصيدة عذبة، يشعر بحالة فريدة من الإعجاب الذي يتجاوز الماديات. هذه الحالة الفريدة أشار إليها الفلاسفة تارةً بكونها اتصّالًا بالماوراء، وتارةً بوصفها إشباعًا للوجدان، وتارةً بوصفها انفتاحًا على المطلق.
العلاقة بين الجمال والطبيعة والفنّ
يطرح النص الشعري صورًا طبيعية مختلفة: السماء المليئة بالشمس والنجوم، الغابات، العشب، الأزهار… وكلها تعكس حضورًا قويًّا للطبيعة بوصفها مصدر إلهام رئيسي للتأمُّل الجمالي. ومع ذلك، لا يمكننا حصر التجربة الجمالية في الطبيعة وحدها؛ إذ إن تاريخ الفن الإنساني – الرسم، الموسيقى، العمارة، الشعر، وغيرها – هو محاولة دائمة لتجسيد الجمال وإعادة إنتاجه أو ابتكاره.
- الجمال الطبيعي: يتميز بالعفوية وعدم التدخل البشري. إنه ما يراه الإنسان حين ينظر إلى شلالٍ هادر أو صحراء شاسعة أو ربيع مزهر. المشاعر التي تصاحب تأمل الجمال الطبيعي قد تكون رهبةً (Sublime) أمام القوى الهائلة للطبيعة، أو فرحًا وابتهاجًا أمام مظاهر الجمال الهادئ كالزهور. في القصيدة، تتبدى هاتان الحالتان في آن: الشعور بالرهبة من اتساع الكون، والشعور بالابتهاج عند ملامسة العشب واستنشاق روائح الأزهار.
- الجمال الفني: هنا يدخل الإنسان بوصفه خالقًا ومنتجًا للجميل. فالفنان، أيًا كان مجاله، يسعى إلى صوغ صورة جديدة للعالم من خلال عدسته الخاصة، فينتج عملًا فنيًّا يستثير المتلقي ويؤثر فيه. وتأتي أهمية العمل الفني من قدرته على التعبير عن تجربة جمالية أكثر تركيزًا أو أكثر مغزى أحيانًا من الطبيعة ذاتها، وفق رؤية هيغل.
لكن في كل الأحوال، يبقى الجمال – سواءً في الطبيعة أو في الفن – وسيلةً لارتقاء الإنسان روحيًّا ووجدانيًّا. وقد أشار ابن سينا وابن رشد وغيرهما من فلاسفة الإسلام إلى أن تأمل الجمال يمنح الإنسان سكينةً داخلية وسموًّا أخلاقيًّا؛ إذ إن النفس تنشد الكمال والجمال هو أحد تجلّياته.
أمثلة من الحياة والفنون
1. مثال من الموسيقى:
خلال الاستماع إلى عمل موسيقي رائع، كالسيمفونية التاسعة لبيتهوفن، يشعر المرء بحالة من الارتقاء والبهجة التي تلامس وجدانه. هذه الحالة لا تخلو من عنصر الدهشة، فهي توقظ في النفس إحساسًا بالنظام الكوني والإرادة القوية للحياة والانتصار على الألم، وهو ما يتماشى مع فكرة نيتشه عن النشوة الجمالية وفكرة كانط عن اللاذاتية.
2. مثال من الرسم:
لوحة “ليلة النجوم” لفنسنت فان غوخ تُعدّ مثالًا واضحًا على تجربة الدهشة الجمالية. فبالرغم من كونها لوحة تعكس منظرًا طبيعيًّا، إلا أن ضربات الفرشاة والألوان swirling تعطي إحساسًا بالحركة الدائمة والدوّامة الكونية. إن الوقوف أمام هذه اللوحة يولّد شعورًا بالدهشة والحيرة أمام الطبيعة الحيّة التي يُعيد الفنان تصويرها بروحه القلقة.
3. مثال من الشعر:
إذا نظرنا إلى قصائد جلال الدين الرومي، خاصةً تلك التي يتحدث فيها عن الحب الإلهي ووحدة الوجود، نجد الدهشة حاضرة بقوة، إذ يستشعر القارئ تماوجًا روحيًّا يحمله بين الدهشة والتوق إلى المطلق. هذا التوق الشاعري يتلاقى مع قصيدتنا الإنجليزية التي تستمد دهشتها من رؤيا كونية شاملة.
4. مثال من المعمار:
تأمل معمار الكاتدرائيات القوطية في أوروبا أو مساجد الحضارة الإسلامية العريقة مثل مسجد قرطبة أو تاج محل في الهند، يشعرنا بروعة الإنسان حين يسعى لجعل فضاءات العبادة أو العمران تنطق بالجمال وتسمو بالوجدان. إن ارتفاع القباب والأقواس والزخارف والنقوش كلها تدفعنا إلى الاندهاش والإحساس بالهيبة والروحانية.
الحجج والدفاع عن قيمة الجمال
1. الحجة الميتافيزيقية
يرى أصحاب النزعة الأفلاطونية والأرسطية والهيغلية وغيرهم أن الجمال ليس مجرد متعة حسية عابرة، بل هو مظهر من مظاهر الوجود نفسه. فالجمال – وفقًا لهم – مرتبط ببنية الكون وانسجامه. لذا فإن دهشتنا أمام الجمال تعكس في الحقيقة دهشتنا أمام النظام الشامل أو العقل الكوني أو “الروح المطلقة”.
في القصيدة، يمتزج شعور الشاعر بامتلاء الكون بالشمس والنجوم مع وعيه بدوره ضمن هذه المنظومة الكونية، وكأن دهشته وإعجابه تأكيدٌ على أن ثمة ترابطًا داخليًا في الوجود، نتذوقه على مستوى وجداني.
2. الحجة الأخلاقية
تربط فلسفات متعددة بين الجمال والأخلاق، فهناك من يرى أن الانسجام والتناسق ليسا حكرًا على الأشكال الخارجية فحسب، بل يتغلغلان أيضًا في الأفعال الإنسانية. فالإنسان الذي يستشعر الجمال قد يميل إلى الفضيلة، لأنّ كليهما يشترك في بحثه عن الكمال والانسجام.
إن تجربة الشاعر مع الزهور ورائحة العشب قد تبدو بسيطة وعفوية، لكنها تُعلّمنا تواضعًا واحترامًا للطبيعة. فحين تدهشك الوردة بجمالها ورقتها، قد تجد في نفسك رغبة في المحافظة عليها والعناية بها، وفي ذلك تجسيد للصلة بين الجمال والأخلاق.
3. الحجة الوجودية
يشدد بعض الفلاسفة الوجوديين على أن الإنسان في تجربة الجمال يكتشف ذاته ويؤكد وجوده الحر. فعندما يغني الشاعر في النهاية: “بحثتُ عن المجهول، وفي دهشةٍ وانبهارٍ، أغنّي“، فهو يعبر عن بحثه الحرّ عن المعنى في عالم لا يقدِّم معنًى جاهزًا. إن الدهشة هنا هي تأكيد للذات ولقدرة الإنسان على إعطاء العالم معنىً من خلال وجدانه ورؤيته الخاصة.
البعد التأملي للقصيدة
تتكرر في الأبيات عبارة “وفي دهشةٍ وانبهارٍ، أغنّي“. هذه العبارة المحورية تختزل التجربة الجمالية في فعل “الغناء”. لماذا الغناء تحديدًا؟ لأن الغناء تعبير مباشر عن الفرح والامتنان والإحساس بالجمال. إنه النشاط الذي يجمع بين الجسد والنفس في لحظة تحرر، فيرتفع فيها الوعي بالذات وبالعالم.
- الموسيقى الداخلية: يخبرنا الشاعر أنه حين تملأه الدهشة، يتدفق صوتٌ داخلي يتحول إلى أغنية. وهذا يحاكي ما يصفه نيتشه باللحظة الديونيسية التي يندمج فيها الإنسان مع الإيقاع الكوني.
- الإفصاح عن الخفي: الغناء قد يكون شكلًا من أشكال الإفشاء الوجداني. فحين يعجز الإنسان عن التعبير بالكلام العادي، قد يجد في الغناء وسيلة لتجاوز حدود اللغة.
- التواصل مع الآخر: ربما الشاعر لا يغني لنفسه فحسب، بل يريد للآخرين أن يسمعوا غناءه ويشاركوه دهشته. وهذا يتماشى مع كانط الذي يقول إن حكمنا الجمالي بطبيعته يدعو الآخرين إلى المشاركة فيه.
نحو رؤية شمولية للجمال
لقد حاولنا في هذه المقالة أن نرسم خريطة فكرية لفلسفة الجمال، بدءًا من أفلاطون وأرسطو، مرورًا بالفلسفة المدرسية والإسلامية، ووصولاً إلى كانط وهيغل ونيتشه وغيرهم. وتبيّن لنا أن محور التجربة الجمالية يمكن تلخيصه في لحظة الدهشة والانبهار التي يشعر بها الإنسان أمام جمال الكون أو أمام الإبداع الفني، تلك اللحظة التي تفتح أمامه آفاقًا معرفية وروحية وأخلاقية، تغني وجوده وتربط حاضره بأزلية الكون.
إنَّ الشاعر في القصيدة يضعنا أمام تجربة شخصية جدًا، لكنها في الوقت ذاته إنسانية وعالمية. فهو يجد مكانه بين الكواكب والنجوم، ويشعر بالدم يجري في عروقه، ويمشي على العشب، ويستنشق رائحة الزهور، فيحمله كل ذلك إلى حالة من “الغناء” النابع من الدهشة. قد تكون هذه التجربة دليلًا واضحًا على ما ذهب إليه الفلاسفة من أن الجمال يمسّ أعماق النفس ويجعلها أكثر حيويةً وانفتاحًا، سواء كان تفسيرنا لهذا الجمال أفلاطونيًا بأنه ظل لمُثلٍ عليا، أو أرسطيًا بأنه تجلٍّ للتناسق، أو كانطيًا بأنه حكم ذاتي لاذاتي، أو هيغليًا بأنه تعبير عن الروح، أو نيتشويًا بأنه اندفاعة ديونيسية مفعمة بالإرادة.
الجمال كقيمة إنسانية عابرة للثقافات
لا يمكن حصر الجمال في إطار ثقافة أو حقبة زمنية محددة، إذ إن الشعور بالجمال غريزة فطرية لدى الإنسان، تتلون بأشكال متعددة باختلاف الزمن والمكان. فالبدوي الذي تأسره رمال الصحراء عند غروب الشمس يتشارك الدهشة مع الفنان الإيطالي الذي يرسم مشهدًا جبليًا، ويتشاركها مع الشاعر الإنجليزي الذي يرى في نجوم السماء ملاذًا روحيًا. إن الاختلاف الثقافي يُثرينا ويعدد سبل تعبيرنا عن الجمال، لكنه لا يغير من حقيقة أن البشر جميعًا يتوقون إلى الانبهار بشيء يسمو على واقعهم اليومي.
الجمال والدور التحويلي في حياة الإنسان
إن اقتراب الإنسان من الجمال، سواءً عبر الطبيعة أو الفن أو الأخلاق أو العلاقات الإنسانية، هو فعل تحويلي يمكن أن يغير نظرته إلى نفسه وإلى العالم من حوله. في كثير من الأحيان، قد تكون نظرة عابرة إلى غروبٍ ساحر أو سماع معزوفة مؤثرة كافية لإيقاظ حافز داخلي في النفس، يدفع المرء إلى التأمل والتساؤل والتغيير.
في قصيدتنا، نجد الشاعر يصرّح بأنه في خضمّ “المعلوم” بحث عن “المجهول”، وهذا التطلع إلى ما وراء الحدود الظاهرة قد يتحقق بفعل شرارةٍ جمالية. إن الجمال يُشعل جذوة البحث عن المعنى، وربما هذا ما قصده بعض فلاسفة الوجودية حين تحدثوا عن “عبثية” العالم وضرورة أن نضفي عليه معنًى بأنفسنا، ومن بين أقوى الوسائل التي نملكها لهذا الإضفاء هو الفن والإحساس الجمالي.
الجمال بوصفه طريقًا للسلام والتعايش
لا شك أن تقدير الجمال والتأمل فيه يمكن أن يكون أداة للتواصل السلمي بين البشر. فالفن بمختلف أنواعه يشكل لغة عالمية تعبّر عن المشاعر الإنسانية المشتركة. إن لحظة الدهشة أمام جمال لوحة أو موسيقى تجمعنا رغم اختلاف لغاتنا وخلفياتنا الثقافية. هنا يبرز الجمال كقاسم إنساني مشترك قادر على توحيد القلوب وتهذيب السلوك.
نظرة مستقبلية
مع التطور التكنولوجي الهائل الذي يشهده عصرنا، بدأ الإنسان يبحث عن الجمال في مساحات جديدة، كالفن الرقمي والواقع الافتراضي والذكاء الاصطناعي. ومع ذلك، سيظل الجمال معتمدًا على الدهشة الأولى التي تلهم الإنسان، سواء تمثل في مشهد طبيعي أخّاذ أم في تجربة فنية رقمية مبتكرة.
ينبغي لنا ألا ننسى أن الحفاظ على الجمال البيئي ضرورة إنسانية وأخلاقية، فأمام التهديدات البيئية مثل التغير المناخي وتلوث الطبيعة، يتجلى واجب الإنسان في صون جمال الأرض واستدامتها، كي يتاح للأجيال القادمة أيضًا أن تقف في لحظات دهشة أمام شروق الشمس أو خرير الأنهار أو عطر الزهور.
ختاماً نقول
إن الدهشة المنبعثة من قصيدة الشاعر الكبير طاغور ليست مجرد شعور عابر، بل إنها نبع متجدد تتفرع منه ينابيع الفكر والفلسفة والفن والأخلاق. لقد بينّا عبر هذه الرحلة الطويلة في فلسفة الجمال أن هذه “الدهشة” هي أصل كل بحث فلسفي وجمالي، وأنها الجسر الذي يعبر بنا من عالم الحس إلى أفق الفكر والروح.
إن تأمل الجمال نشاطٌ يتجاوز ذواتنا الفردية ليربطنا بالعالم والآخر والمطلق، ويفتح أمامنا إمكانية للتسامح والتعايش والإبداع. وربما هذا ما يجعل الشاعر ينشد في ختام القصيدة:
أرهفتُ سمعي،
وفتحتُ عينيَّ،
وكشفتُ قلبي للعالم،
في قلبِ المعلوم
بحثتُ عن المجهول،
وفي دهشةٍ وانبهارٍ، أغنّي.
إنها دعوة ضمنية للإنسان المعاصر، المرهق بتفاصيل الحياة السريعة وضغوطها، بأن يفتح أذنيه وعينيه وقلبه أمام جمال الكون، فيجد في الدهشة طريقًا للسمو والصفاء والمعرفة. كلنا قادرون على الغناء مثلما يغني هذا الشاعر، حين نُدرك أن الحياة نفسها فرصة ثمينة للتفاعل مع الجمال – سواء في الطبيعة أو الفنون أو العلاقات الإنسانية – وأن دهشتنا هي علامة حيوية على أننا ما زلنا بشرًا ننشد المعنى ونصنعه ونتقاسمه في آنٍ معًا.
وهكذا، فإن فلسفة الجمال ليست مجرد فرع من فروع الفلسفة، بل هي جوهر التجربة الإنسانية نفسها، لأنها تذكّرنا بقدرتنا على التفتح والإحساس والإبداع والاحتفاء بعالمٍ يعجّ بالأسرار والروائع.
كتبت بواسطة تشات جي بي تي