سورة الشرح من منظور علم النفس الإيجابي: طريق نحو الانشراح والمرونة النفسية في ضوء القرآن

يُعَدُّ القرآن الكريم مصدرًا ثريًّا للإرشاد النفسي والروحي، وهو رافد أساسي يمكن أن يُمدّنا بأدوات فعّالة في مساعدة الإنسان على تجاوز أزماته النفسية وتقوية صحته العقلية والروحية. ومن السور التي لفتت انتباه علماء النفس الإسلاميين والمفكّرين المعاصرين في هذا السياق سورة الشرح (ألم نشرح). تحمل هذه السورة في آياتها القليلة مضامين عميقة تشارك كثيرًا من ركائز علم النفس الإيجابي، مثل مفهوم الأمل، والتفاؤل، والتكيّف، وإيجاد المعنى.
فيما يلي محاولة لقراءة سورة الشرح من منظور علم النفس الإيجابي، مع توظيف أمثلة وشواهد تربطنا بالواقع المعاصر، وتبيّن لنا كيف يمكن الاستفادة من توجيهات هذه السورة للتعامل مع الضغوط والمشكلات النفسية التي يعاني منها كثير من الناس اليوم.
أولاً: شرح الصدر وتخفيف الأعباء النفسية
قوله تعالى:
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ (3)
1. مفهوم الانشراح النفسي
إن أول ما تلفتنا إليه السورة هو سؤال استنكاريّ موجَّه للنبي صلى الله عليه وسلم: “أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ”. يدلّ هذا على عملية توسيع الصدر واستيعاب النفس لواقع الحياة وتحدّياتها. في علم النفس الإيجابي، يُشير مفهوم “المرونة النفسية” (Resilience) إلى قدرة الفرد على التكيّف مع الضغوط والتقلّبات. فالانشراح هنا يجسد اكتساب الطاقة الداخلية والاتزان الوجداني الذي يمكِّن الإنسان من مواجهة التحديات.
- مثال واقعي:
عندما يتعرّض إنسان لمشكلة اقتصادية أو فقدان عمل، قد يشعر بالضيق الشديد والعجز. لكن إذا تذكّر أن الله سبحانه وتعالى يمدّه بمقوّمات التحمّل، وأخذ بالأسباب المتاحة، فقد يساعده هذا “الشرح” الداخلي على رؤية بدائل وحلول جديدة، مما ينعكس على استعادة اتزانه.
2. وضع الأوزار والتخفّف من الأحمال
تشير الآية “وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ” إلى تحرير النفس من المشاعر السلبية والآثام والأثقال التي ترهق الروح وتضعف العزيمة. على المستوى النفسي المعاصر، يتفق ذلك مع مفهوم “التفريغ” أو “التحرر” من المشاعر المرهقة مثل الذنب الشديد، أو الإحباط العميق. حين ندرك أنّ باب التوبة والمغفرة مفتوح، وأنه بإمكاننا الاستفادة من أخطائنا وتصويب مساراتنا، تتلاشى كثير من الضغوط الذهنية التي قد تشلّ التفكير.
- شاهد من الإرشاد النفسي:
في بعض تقنيات العلاج السلوكي المعرفي (CBT)، يُطلب من الشخص أن يعيد تأطير الأفكار السلبية بطريقة أكثر واقعية وإيجابية؛ كأن يستبدل “أنا فاشل” بـ”لديّ جوانب ضعف يمكنني العمل على تحسينها”، وهكذا. هذه الممارسة تضع عن الفرد الشعور بالوزر والعبء النفسي.
3. أثر ذلك على الكيان النفسي والجسدي
تفيدنا الآية “الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ” بأن تلك الأوزار كانت تحني الظهر وتسبب الألم. ومما لا ريب فيه أن الاضطرابات النفسية تنعكس على البدن بشكل واضح، مثل آلام العضلات واضطراب الجهاز الهضمي وغيرها. وعندما نتخلّص من أعباءنا النفسية أو نتعلّم إدارتها، نشعر أحيانًا بتحسّن جسدي واضح، وهذا ما تشير إليه الأبحاث حول العلاقة الوثيقة بين الصحة النفسية والصحة الجسدية.
ثانيًا: رفع الذِّكر وأثر الإيجابية في تقدير الذات
قوله تعالى:
وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)
يدلّ رفع الذكر على المكانة العالية والقبول الواسع. يمكن ربط ذلك في علم النفس الإيجابي بمفهوم تقدير الذات الصحي (Healthy Self-Esteem). فالشعور بالكرامة والقيمة الإنسانية جزء أساسي من صحة الإنسان النفسية. لقد منَّ الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم بهذا الرفعة لذكره؛ وفي الوقت نفسه يُعلِّمنا أن لكل إنسان مكانة وقيمة كبرى في ميزان الله، وأنه كلما استقامت العلاقة الروحية مع الله واكتسب الإنسان الخلق الرفيع، ازداد تقديره لذاته واحترامه لذاته ومجتمعه.
- مثال على بناء تقدير الذات:
حين يقوم المربّون والمدرسون بتعزيز فكرة “أنت قادر ومتميّز في جوانب معيّنة”، ويحترمون خصوصية كل طالب، فإن ذلك يجعل الطفل يشعر بـ”رفع الذكر” أو المكانة، فيتكوّن لديه شعور إيجابي بقدراته. وهذا يشابه ما تدعو إليه السورة من أهمية قيمة الإنسان ورفعة منزلته، وإن اختلفت السياقات.
ثالثًا: الأمل والتفاؤل في مواجهة العسر
قوله تعالى:
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)
1. تكرار العبارة وأثرها الإيجابي
من الجوانب الملفتة في هذه الآيات تكرار عبارة “إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا”. فالتكرار يوحي بالتوكيد على قضية محورية: كلّما ازدادت المشقة، كان الفرج قريبًا. في علم النفس الإيجابي، التركيز على الأمل (Hope) والتفاؤل (Optimism) له دور كبير في التخفيف من الضغوط النفسية. وقد توصّل الباحثون إلى أنّ الأشخاص الذين يملكون مستوى عالٍ من التفاؤل والأمل يكونون أكثر قدرة على مواجهة الصعاب وتجاوز المحن.
- شاهد من الحياة المعاصرة:
في أزمات الشعوب، يظهر نمط من التفاؤل الجماعي يُسمّى بـ”الصمود المجتمعي” (Community Resilience). فرغم الحروب أو الكوارث الطبيعية، يتكاتف الناس ويتعاونون على الإغاثة والإعمار. وهذا من تجلّيات الإيمان بـ”إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا”.
2. المنظور الإسلامي والأمل الدائم
يشير العلماء إلى أن استخدام لفظة “مع” بدلًا من “بعد” (“فإنّ مع العسر يُسرًا”) يدعو لإدراك أن اليسر موجود وقريب ويتزامن مع العسر نفسه. وهذا البعد الزمني يؤكد أن الإنسان قد يعيش جزءًا من اليسر حتى في خضم العسر؛ كأن يتعلم مهارات جديدة، أو يكتشف قدرات كامنة، أو ينال دعمًا اجتماعيًا غير مسبوق. فهو لا ينتظر فقط انتهاء الأزمة، بل يجد في وسطها أبعادًا إيجابية وتجارب نمو.
رابعًا: بعد الفراغ والإنجاز يأتي الهدف الجديد
قوله تعالى:
فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ (7)
1. الاستثمار الإيجابي للوقت والطاقة
معنى الآية أن الإنسان إذا انتهى من عمل مهم أو عبادة عظيمة أو مهمة شاقة، فليتوجّه إلى عمل آخر نافع. إن من أخطر المشكلات التي يواجهها الأفراد المعاصرون “الفراغ” والبطالة وعدم وجود غاية أو مشروع في الحياة. ومن مبادئ علم النفس الإيجابي تركيزه على مفهوم التدفق (Flow) الذي وضعه عالم النفس ميهالي تشكسينتميهالي (Mihaly Csikszentmihalyi)، حيث يشير إلى حالة من الانغماس الإيجابي في نشاط ذي معنى يشغل القدرات الذهنية بشكل كامل. عندما نفرغ من مهمة وننتقل إلى أخرى، نحمي أنفسنا من ضياع الهدف ومن آثار الفراغ السلبي.
- مثال تطبيقي:
إذا اختُتم فصل دراسي أو مشروع وظيفي، يمكن للإنسان أن يستثمر إنجازه السابق في بناء مشروع آخر، مثل التعلّم المستمر أو تطوير مهارة جديدة. فبهذه الطريقة يتجنب الشخص الوقوع في الفراغ القاتل أو الشعور بالملل والاكتئاب.
2. المداومة على العمل والنشاط
الإرشاد النبوي واضح في تشجيع الإنسان على الاستمرارية وعدم التوقف؛ فالراحة الزائدة قد تقود إلى التواكل والخمول. وفي الوقت نفسه، فإن التوازن مطلوب؛ لأن الإفراط في العمل دون راحة قد يسبب احتراقًا نفسيًّا (Burnout). لذا تأتي هذه الآية لتوجهنا نحو الاهتمام بما بعد الإنجاز دون انغماس مُرهِق، وفي إطار توجيه طاقاتنا إلى ما هو مفيد ونبيل.
خامسًا: التوجه إلى الله والرغبة فيما عنده
قوله تعالى:
وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
1. البعد الروحي في معالجة الضغوط
يوجّهنا الله تعالى إلى أن تكون الرغبة النهائية والتعلّق الجوهري به سبحانه، لأنه مصدر القوة والعون. وقد تبيّن في العديد من الدراسات النفسية أن البعد الروحي والإيماني يساعد على مواجهة الضغوط بشكل فعّال، ويمنح صاحبه شعورًا بالرضا والقوة الداخلية. وفي علم النفس الإيجابي، يُطلق على هذا “المعنى الأكبر” أو “الغائية”، أي أن الإنسان الذي يجعل له غاية عليا مرتبطة بقوة أسمى منه، يكون أقدر على الصبر والتحمل وتجاوز الأزمات.
- شاهد من الواقع:
تتعدّد البرامج الروحية في كثير من دول العالم (حتى الغربية منها) لمساعدة الأفراد على التغلّب على الإدمان أو الاكتئاب، مثل برامج التأمل الروحي أو مجموعات دعم المدمنين التي تركّز على الإيمان بقوّة أكبر. ويلاحظون أن الأشخاص الذين يركزون على الجانب الروحي يمتلكون قدرة أفضل على الاستمرار في التعافي.
2. الرغبة في الله ورجاء رحمته
تشير الآية أيضًا إلى منهج عملي في توجيه المشاعر والرغبات، إذ ينبغي للإنسان ألا يحصر رغباته في الدنيا فقط، بل يفتح مداركه إلى الغايات الأسمى. وهذا يخلق نوعًا من التوازن النفسي ويخفف من وطأة الأزمات الاقتصادية أو الاجتماعية. فعندما يشعر الإنسان أن هناك أفقًا أبعد وأسمى من المصاعب المؤقتة، ينشط داخله دافع التفاؤل والعمل.
فوائد عملية وتطبيقات معاصرة
-
التأمل والتدبّر اليومي
يمكن للإنسان أن يخصص وقتًا يوميًّا لتأمّل هذه المعاني في سورة الشرح، فيتذكر أن الضيق لن يدوم وأن كل عسر معه يسر، مما ينعكس إيجابًا على صحته النفسية. -
ممارسة الامتنان (Gratitude)
كلما شعرنا بالضغوط، فإن تذكّرنا لما نمتلكه من نِعَم (مثل نعمة الصحة، الأسرة، الفرص المتاحة) يولّد إحساسًا بالانشراح النفسي، ويزيح بعضًا من الأحمال العاطفية. وقد أثبتت الأبحاث أن كتابة “قائمة الامتنان” يوميًّا تُحسّن المزاج وتخفض أعراض الاكتئاب. -
البحث عن معنى أكبر في الحياة
أحد الأسس الجوهرية في علم النفس الإيجابي هو التركيز على المعنى والغاية. تشير سورة الشرح إلى ارتباط الإنسان بالربوبية (“وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ”). فإن أنشأ المرء مشروعًا حياتيًّا مرتبطًا بالخير والنفع العام، شعر بالقوة والدافعية وتخفيف الصراعات الداخلية. -
التعلّم من العسر
من مبادئ المرونة النفسية هو أن ننظر إلى لحظات العسر على أنها مواطن تعلم واكتشاف للقدرات. يقول الله تعالى: “فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا”. قد يكون اليسر في تعلم الصبر، أو اكتشاف مواهب جديدة، أو بناء علاقات متينة. وهكذا يتحوّل العسر إلى فرصة للنمو. -
إعادة ترتيب الأولويات
يوضح لنا “فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ” أن الحياة وحدات متتابعة من العمل والإنجاز. يمكن للأشخاص الاستفادة من ذلك بتحديد أهداف محددة وواضحة للفترات المختلفة من حياتهم، بحيث يمتلئ الفراغ بما يعود عليهم وعلى مجتمعهم بالنفع، مع مراعاة التوازن الروحي والجسدي والاجتماعي.
ختاماً
إن سورة الشرح تعطينا صورة متكاملة عن رحلة النفس في مواجهة الضغوط. يبدأ المشهد بالانشراح وتخفيف الأثقال، ثم الانتقال إلى رفع المكانة الذاتية والمعنوية، وصولًا إلى التأكيد على تفريج الكروب بحضور اليسر مع العسر، ثم الدعوة للعمل المستمر والتوجه إلى الله تعالى. تتناغم هذه المفاهيم الإسلامية مع مبادئ علم النفس الإيجابي المعاصر، في تأكيده على الأمل والمرونة والمعنى والتطوّر الإيجابي من الأزمات.
في خضم المشاكل النفسية التي تعاني منها المجتمعات اليوم—بدءًا من القلق والاكتئاب وصولًا إلى الاحتراق النفسي—تأتي سورة الشرح لتضعنا أمام ركيزة أساسية في التعامل مع الحياة: إنّ الألم ليس نهاية المطاف، بل خطوة تتبعها راحة ونمو، وإنّ التفاؤل والعمل الدؤوب والإيمان العميق بقرب الفرج هي مفاتيح أساسية لإعادة بناء الصحة النفسية للفرد والمجتمع. وختامًا، يبقى لنا أن نجعل من هذه القيم الإيجابية أسلوب حياة نمارسه يومًا بعد يوم، لا مجرّد شعارات نرددها في أوقات الضيق.
كتب بواسطة تشات جي بي تي