هل القرآن ذكوري؟ أم أن المسلمين يفهمون القرآن من زاوية ذكورية تحقق مصلحة الذكر أكثر من الأنثى؟

هل القرآن ذكوري؟ أم أن المسلمين يفهمون القرآن من زاوية ذكورية تحقق مصلحة الذكر أكثر من الأنثى؟

يُعَدّ القرآنُ الكريمُ النصَّ المركزيَّ في الإسلام، والمنبع الأساس للتشريع وللاستدلال في مختلف مناحي الحياة العقدية والعبادية والاجتماعية. ومنذ بداية الرسالة المحمدية وحتى وقتنا الحاضر، ظهرت تساؤلاتٌ متنوّعةٌ حول موقع المرأة في القرآن، ودرجة مساواتها بالرجل في الأحكام والأخلاقيات والمعاملات. من بين هذه التساؤلات يبرز سؤال: هل القرآن نفسه يحمل نزعةً “ذكورية”؟ أم أن المشكلة تكمنُ في طريقة فهم المسلمين لهذا النص، وتأويلهم له تأويلًا يرسِّخ مصالح الرجال على حساب النساء؟

تهدف هذه الأطروحة إلى الإحاطة بأبعاد هذه القضية من زوايا دينية وتاريخية ولسانية، وتسعى إلى إظهار مدى تعقّد هذه الإشكالية، وأنها لا يمكن الحكم عليها ببساطة بـ”نعم” أو “لا”. سيُطرح في البداية الإطارُ النظريُّ للمسألة، ثم قراءة تاريخية تأصيلية للعلاقة بين النص والمجتمع، يَلي ذلك تحليل لغوي ونقدي لنصوص قرآنية مختارة، قبل الخروج باستنتاجات ختامية توضح ما إذا كان القرآنُ ذكوريًّا في ذاته، أم أن الذكورية في الواقع ناجمة عن تفاسير وتأويلات بشرية متأثرة بالسياقات الاجتماعية والثقافية على مر العصور.

الإطار النظري للمسألة

1. مفهوم “الذكورية” في السياق الحديث

الذكورية (أو البطريركية بالاصطلاح الغربي) تُشير إلى نظام اجتماعي وسُلْطوي يُهيمن فيه الرجال، أو يسيطرون على مجالات رئيسية في الحياة (السياسية والاقتصادية والثقافية)، بينما تُوضع المرأة في مرتبة أدنى. وعندما يُقال إن نصًّا ما “ذكوري”، فذلك يعني –في غالب استخدامات هذا المصطلح اليوم– أنه ينتصرُ للرجال على حساب النساء، أو يغفلُ المرأة من حيث الحقوق والمكانة الإنسانية.

غير أنّ ثمة تمييزًا مهمًّا يجب مراعاته عند الحديث عن نصٍّ دينيٍّ قديمٍ –مثل القرآن– وهو أنه ينبغي النظر إليه في سياق نزوله التاريخي والاجتماعي والثقافي، والنظر أيضًا في مفهوم الألوهية ومقاصد التشريع، والأدوات اللغوية المستخدمة في التعبير عن الأحكام والمقاصد.

2. علاقة النص بالتأويل: جدلية القرآن والتفسير

أهمّ عنصر يجب أخذه في الاعتبار أن القرآن نصٌّ إلهيٌّ مقدّسٌ في العقيدة الإسلامية، لكنه في الوقت نفسه نصٌّ مكتوب باللغة العربية (لغة بشرية)، وبالتالي يبقى العبور إلى معانيه متعلّقًا بأدوات الفهم والتأويل لدى البشر. ومن هنا تتكوَّن مساحة واسعة من تعدُّد الفهم عبر المذاهب والمدارس التفسيرية المتعاقبة. فهناك فرقٌ بين “النص” في ذاته وبين “التفسير” أو “التأويل” الذي يعمل على كشف المعنى المتصور في ضوء اللغة والقرائن التاريخية والسياقات المختلفة.

إذا نظرنا إلى تاريخ علم التفسير، نجد نماذج متباينة في إبراز دور المرأة وحقوقها وكرامتها. فمثلًا، نجد لدى بعض المفسرين نزعةً تركز على تقييد المرأة وحصر أدوارها في مجالاتٍ محدودة، بينما نجد لدى آخرين –قدامى ومعاصرين– قراءاتٍ أكثر انفتاحًا تفسح مجالًا أكبر لمكانة المرأة.

3. الجانب التاريخي – المجتمعات البطريركية وتأثيرها على الفهم

لا يمكن إنكار أن المسلمين –مثلهم مثل غيرهم من الشعوب– عاشوا في بيئات اجتماعية وثقافية يطغى عليها النظام الأبوي، حيث للرجال اليد الطولى في صنع القرار وفي إدارة شؤون المجتمع. وقد انتقلت تلك البيئة الثقافية مع الزمن إلى المفاهيم الدينية والتأويلات النصية. فحينما يتلقى المُفسِّر نصًّا قرآنيًّا ويتأمّله، فإن فَهْمَه قد يتلوّن، ولو بقدرٍ ما، بالثقافة السائدة والتصورات الاجتماعية التي تربّى عليها.

قراءة تاريخية تأصيلية

1. نظرة موجزة لوضع المرأة قبل الإسلام

يُروى تاريخيًّا أن المرأة في الجزيرة العربية قبل الإسلام كانت تعاني تمييزًا حادًّا، مثل وأد البنات، وحرمان النساء من الميراث، وعدم الاعتراف باستقلاليتها القانونية، فضلاً عن العادات التي تقيِّد حريتها. جاء الإسلام بنصوص قرآنية وحديثية عديدة نهضت بمستوى المرأة تشريعيًّا وأخلاقيًّا، ومنحها حقوقًا اجتماعية واقتصادية (كحق الميراث وحق المشاركة في بعض شؤون المجتمع)، وأمر بالعدل والرحمة في معاملتها.

يمكن الاستدلال على ذلك بالآيات القرآنية التي تُعنى بكرامة الإنسان عمومًا، مثل قوله تعالى:
{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ…\} (الإسراء: 70)

يلاحظ أن الآية تتحدث بصيغة التعميم “بني آدم”، أي الإنسان بشكل عام، دون تفريق صريح بين الذكر والأنثى في الكرامة الأصلية. ولكن قد تظهر أسئلة حول خصوصية المرأة في أحكام أخرى مثل المواريث والقوامة، وهنا يأتي الإطار الاجتماعي التاريخي لمرحلة التنزيل.

2. تطور التفسير عبر المدارس الإسلامية

خلال القرون الأولى من الإسلام، ومع تشكّل المذاهب الفقهية والمدارس التفسيرية، بدأ المسلمون بإرساء قواعد الاستدلال الأصولي والفقهي. ومع أن نصوص الوحي متاحة للجميع، إلا أنّ التأويل صار خاضعًا لأعراف اجتماعيةٍ وذهنية “ذكورية” مرتبطةٌ بموروث ثقافي طويل الأمد. فكان من الطبيعي أن تنعكس بعضُ القيود المجتمعية على تأويل بعض الآيات.

مثلًا، تناول العلماء آياتٍ كقوله تعالى:
{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ…\} (النساء: 34)

فقد فسَّرتها الأغلبية الساحقة من المفسرين في سياق التفوُّق الإداري والاجتماعي للرجل على المرأة، واعتبروا أن معنى “القوامة” يشتمل على السلطة والهيمنة. بينما نجد في القراءات المعاصرة محاولاتٍ لإعادة تأويل هذه الآية بما يتوافق مع السياق التاريخي للنزول، والإشارة إلى أن “القوامة” تكليفٌ بتولي المسؤولية والنفقة والرعاية، وليس تفوُّقًا جوهريًّا في القيمة أو كرامة المرأة.

3. المنظومة التاريخية ومسألة مشاركة المرأة العلمية

من الجوانب التاريخية المهمة كذلك: محدودية مشاركة النساء في إنتاج العلم الديني عبر القرون. فالبنى الاجتماعية أفسحت المجال –في الغالب– للرجال لينبغوا في العلوم الدينية (الفقه والتفسير والحديث وأصول الدين)، بينما كانت مشاركة النساء محدودة نسبيًّا. وبالنتيجة، غلبت على مصنفات التراث الإسلامي نظرةُ المفسّر الرجل، ما انعكس أحيانًا في اختياراتٍ فقهية أو تفسيرية تحابي الرجل أو تُعطي الأولوية لمصلحته، وإن لم يكن الدافع بالضرورة تحيُّزًا مُتعمَّدًا ضد المرأة، بل ربما كان استجابةً للسياق الثقافي العام.

تحليل لغوي لبعض النصوص القرآنية

1. مسألة “الخطاب بصيغة التذكير” في القرآن

يلاحظُ الباحث في الخطاب القرآني هيمنة ضمائر التذكير وجموع التذكير في صياغة الأحكام والتوجيهات، وهذا الأمر لا يختص بالقرآن وحده، بل هو سمةٌ من سمات اللغة العربية (والكثير من اللغات الساميّة وغيرها). فاللغة العربية الكلاسيكية تَغلبُ عليها الصيغ الذكورية في التعبير عن الجمع المختلط، وتُحمَل المؤنث على الذكر عند الجمع في أغلب الأحيان.

مثلًا، حين يقول تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا…\}

هذه الصيغة –عند جمهور علماء اللغة والتفسير– تشملُ الجنسين (الرجل والمرأة) معًا، وليس الذكور فقط. ومن هنا، فإن حُكمًا شرعيًّا معيّنًا قد يَرِدُ بصيغة التذكير، لكنه في الواقع يشمل الطرفين ذكورًا وإناثًا، ما لم تأتِ قرائن تقيّده بالرجال دون النساء.

وإذا درسنا القرآن من الناحية اللسانية، نرى أنه يستعمل التعابير المتاحة في العربية في عهد النبوة للتعبير عما يريده من أحكام عامة، وبالتالي قد يلوح للقارئ الحديث أن “الخطاب موجه للرجال”، لكن في حقيقة السياق العربي فإنه موجّه لكليهما على سبيل التغليب اللغوي. وهذا جانبٌ مهمٌّ من النقد الذي ينبغي أخذه بعين الاعتبار عند تحليلاتٍ حداثية تتهم القرآن بأنه “لا يخاطب المرأة”.

2. نصوص المواريث

من أكثر النقاط التي تُستدلُّ بها على “ذكورية” الأحكام القرآنية، موضوع الميراث:
{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ۖ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ…\} (النساء: 11)

يرى المعترضون أن هذا الحكم يمنحُ الذكر ضعف ما تأخذه الأنثى، وينطلقون من ذلك إلى أنّ النص القرآني حابيَ الرجل على حساب المرأة. لكنّ فريقًا آخر من العلماء يُذكِّرُنا بأن المرأة في ذلك السياق التاريخي لم تكن مكلَّفة بالإنفاق على نفسها ولا على الآخرين، بينما الرجل مُلزَمٌ شرعًا بالإنفاق على الأسرة والأولاد. فالتفاوت في النسب المالية، يُقابله التفاوت في مسؤوليات الإنفاق.

وفي القراءات المعاصرة التي تسعى إلى إعادة صياغة الأحكام الفقهية بما يراعي تغيّر الأدوار الاقتصادية والاجتماعية بين الرجال والنساء، تتعدّد الآراء حول ما إذا كانت تلك الأحكام نهائيّةً أو لها مساحة من الاجتهاد وفق مقاصد الشريعة، وبخاصةٍ في المجتمعات التي صار فيها للمرأة دَور اقتصادي مستقلّ.

3. نصوص تعدد الزوجات

الآية في سورة النساء التي تبيح تعدد الزوجات (حتى أربع) كثيرًا ما تُثار كمثال آخر على تمييز مصلحة الذكر وإهمال مصلحة الأنثى. يقول تعالى:
{فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ…\} (النساء: 3)

لكنّ الآية الكريمة اشترطت العدل، ونبَّهت إلى أن عدم القدرة على العدل يوجب الاقتصار على زوجة واحدة. وهنا يبرز نقاش فقهي وأخلاقي واسع: هل هذه الرخصة للتعدد تُمثّل حكمًا ظرفيًّا مؤقتًا لمعالجة أوضاع اجتماعية آنذاك، أم حكمًا شرعيًّا مطلقًا لجميع العصور؟ هل يمكن أن يكون العدل مفهومًا أوسع من مجرد النفقة المادية، ويتضمن عدلًا عاطفيًّا ونفسيًّا يكاد يستحيل تحقيقه إلا نادرًا؟

هذه الأسئلة تُطرح من باب المقاربة المقاصدية للنص، وتجدُ آراءً متنوّعةً بين المفسرين الفقهاء قديمًا وحديثًا. وهنا يتضح أن طريقة فهم الآية وتطبيقها قد تتأثر بمدى حضور صوت المرأة في المجتمع، أو مدى مرونة الفقهاء في استيعاب تغيّر الظروف الاجتماعية.

المسلمون والزاوية الذكورية في فهم النص

1. الاتجاهات التفسيرية النسوية المعاصرة

في القرنين الأخيرين ظهرت في الأوساط الإسلامية دعوات من “النسوية الإسلامية” أو “القراءت التأويلية النسوية” مثل أعمال أمينة ودود (Amina Wadud)، وأسماء برلاس (Asma Barlas)، وفاطمة المرنيسي، وليلى أحمد، وغيرهن. تحاول هذه الاجتهادات إعادة قراءة القرآن من منظور يُراعي النص وسياقه التاريخي، ويأخذ بالاعتبار البُعد المقاصدي، ويُفسح المجال للفهم المتكامل الذي لا يُقصي المرأة من دائرة الخطاب القرآني.

تركز هذه القراءات على أنّ القرآنَ عندما يُعلِّمُ قيم العدالة والرحمة والمساواة، فإن هذه القيم تقتضي أن نعيد النظر في تأويل الأحكام المتعلقة بالنساء، أو على الأقل نفتح حوارًا أعمق حولها، بدل الاكتفاء بما رسّخته ثقافاتٌ اجتماعية سابقة.

2. أمثلة على الانحيازات التفسيرية الذكورية

– التأكيد على طاعة الزوجة للزوج
نجد شيوع التأويلات التي تُلزم الزوجة بالطاعة المطلقة للزوج، مع إهمال الحديث عن العلاقات الأسرية المبنية على التشاور والمودّة والاحترام المتبادَل كما ورد في القرآن والسنة. إذ يقول تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ\} (النساء: 19).
فالآية تدعو لعِشرةٍ قائمةٍ على المعروف، لا على التسلُّط أو الإخضاع. لكن بعض الفتاوى صوّرت العلاقة الزوجية كأنها علاقة آمر ومأمور فقط.

– مسألة الحجاب
بعضهم فسّر الآيات المتعلقة بستر المرأة تفسيرًا يوحي بأنَّه لا بدّ لها من الاختفاء الكامل تقريبًا من المشهد العام، رغم وجود قراءات أخرى ترى أن الآيات نزلت لتنظيم لباسٍ محتشمٍ ولحفظ الاحترام الاجتماعي، وليس حصر المرأة في المنزل.

– تقييد دور المرأة الاجتماعي
هناك تفسيرات فقهية تَحرِم مشاركة المرأة في القضاء أو الولايات العامة، أو تحرم خروجها للعمل والدراسة إلَّا في أضيق الحدود؛ ويعتمدون في ذلك على قراءة معيَّنة لآيات وأحاديث، ويغفلون شواهد تاريخية تُشير إلى انخراط بعض الصحابيات في الشأن العام والعلمي.

3. الجدل بين الثابت والمتغير

في مجالات أخرى، يظهر الخلاف حول ما يعتبره الفقهاء من الثوابت الشرعية وما يعتبرونه من المتغيرات التي يجوز الاجتهاد فيها. وهنا تتدخل عوامل عديدة، مثل أدوات أصول الفقه، وفلسفة التشريع، والمقاصد الكبرى (العدالة، والرحمة، وصلاح البشرية).

على سبيل المثال، يرى بعض الفقهاء المعاصرين أنّ الأصل في العبادات والمعتقدات هو ثبات الأحكام، بينما في المعاملات والعلاقات الاجتماعية هناك مساحة أوسع للاجتهاد والنظر فيما يحقق المصلحة ويواكب التطور المجتمعي، شريطة ألا يُخالِف قطعيات القرآن والسنة. ومن ثمّ فإن طريقة ترتيب العلاقة بين الرجل والمرأة قد تكون قابلةً لإعادة قراءةٍ، مادامت لا تُهدر نصًّا قطعيًّا ولا تُضادّ مقصود الشريعة العام.

محاولة للوصول إلى خلاصة تحليلية

1. هل القرآن ذكوري في ذاته؟

– من المنظور العقائدي الإسلامي: يُعرَف أن القرآن كلام الله تعالى المنزَّه عن التحيّز أو الظلم، وأن الله تعالى عادلٌ لا يظلمُ مثقال ذرة، ولا يفضّل جنسًا على جنس في أصل الكرامة الإنسانية. كما يؤكّد القرآن في أكثر من موضع أن التفاضل عند الله بالتقوى والأعمال الصالحة لا بالجنس أو العرق أو النسب.

– من المنظور التاريخي اللغوي: اللغة العربية في القرن السابع الميلادي كانت تَغلبُ فيها الصيغ التذكيرية، وبالتالي فإن استخدام أساليب التذكير والجمع المذكر لا يدل بمفرده على انحياز تمييزي ضد المرأة، بل يعكس طبيعة التعبير اللغوي آنذاك.

– من زاوية الأحكام: بعض الأحكام القرآنية تتعلّق بسياق اجتماعي محدَّد (كالقوامة أو تعدد الزوجات أو نصيب الإرث)، وهي أحكام جاءت –من وجهة النظر الإسلامية– لتنظم حياة الناس في ذلك الزمن، مع إمكانية استنباط مقاصد أوسع تتعلق بالعدل ورعاية الحقوق. يرى تيار واسع من العلماء أنّ هذه الأحكام تمثّل حلولًا تشريعية مرحلية أو حلولًا تتضمن قدرًا من المرونة في التطبيق تبعًا للظروف، بشرط المحافظة على الأصول والقيم الكلية.

بناءً عليه، ليس من الدقيق القول إن “القرآن نفسه ذكوري”؛ لأن ذلك يُغفل السياق التاريخي واللغوي والنصوص الأخرى التي تؤصّل مساواةً روحيةً وأخلاقيةً بين الرجل والمرأة. ومع ذلك، فإن بعض الآيات تُفرِّق بين الجنسين في بعض المسؤوليات أو الحقوق أو الواجبات، ما قد يُفهَمُ لدى البعض أنه تفضيل تامّ للرجل على المرأة؛ لكن هذا الفهم يحتاج إلى دراسةٍ استقصائية تراعي المنهج التكاملي في النظر.

2. هل يفهم المسلمون القرآن فهمًا ذكوريًّا يحقّق مصلحة الذكر؟

المسلمون ليسوا مجموعةً متجانسةً في فهم القرآن، وإنما هم أطيافٌ متعددة، تضم المدارس الفقهية المختلفة، وتتّسع لتشمل التيارات الحديثة من النسوية الإسلامية والتجديدية، بالإضافة إلى التيارات التقليدية. ومن ثمّ يمكن القول إنّ جزءًا كبيرًا من التراث الفقهي والتفسيري التقليدي اتّسم بتأويلاتٍ قد تكون منحازةً للذكورة، متأثرةً ببيئاتٍ بطريركية. ومع ذلك، هناك دائمًا محاولاتٌ متكررةٌ عبر التاريخ لتقديم تفاسير وآراءٍ أكثر إنصافًا للمرأة.

في عصرنا الحديث –مع الانفتاح الثقافي وحضور المرأة في ميادين العلم والبحث– برزت أصوات نسائية وعلمية جديدة تطالب بإعادة تفسير القرآن والسنة على نحوٍ أكثر عدلًا وشموليةً. بل بدأت تظهرُ دراساتٌ علميةٌ من قبل باحثات وباحثين مسلمين تطرحُ أسئلة نقدية حول جوانب التحيّز في التراث الفكري، وليس في النص القرآني نفسه بالضرورة.

الخاتمة

يتضح مما سبق أنَّ مسألة “ذكورية القرآن” لا يمكن طرحها بشكلٍ اختزاليٍّ يُغفلُ السياق التاريخي واللغوي والاجتماعي للنص، وكذلك لا يمكن تجاهل الدور الهائل للتأويلات والتفاسير التي جرت عبر قرونٍ طويلة في مجتمعاتٍ ذات بُنى اجتماعية أبوية. من وجهة نظر إسلامية تقليدية، يظلّ الإيمان بأنَّ القرآن عدلٌ إلهيٌّ منزَّهٌ عن كل ظلمٍ أو تمييزٍ، وأنه يوجّه المؤمنين إلى تحصيل الرحمة والعدل والمساواة بين البشر في أصل إنسانيتهم.

لكنَّ الاعتراف بالموروث الثقافي والتاريخي، الذي قد يَحْمِل لونًا ذكوريًّا، يجب أن يدفع إلى النقد والمراجعة والتجديد العلمي. فكما أنه قد يحصل تطوّرٌ في أنظمة القانون الوضعي وفق تغيّر المعطيات الاجتماعية، فإن الفقه الإسلامي –في المعاملات خصوصًا– يمكن أن يشهد تجديدًا في آليات الفهم والتطبيق، ما دام ذلك خاضعًا لمرجعية النصوص القطعية ومقاصد الشريعة.

وفي النهاية، تبقى الإجابة على التساؤل المطروح رهينةً بمنهجية كلّ مفسّرٍ وبسياقه الفكري والاجتماعي؛ فمن يقول إن القرآن ذكوري يركّز على بعض الظواهر التمييزية في الأحكام كما فَهِمها التفسير السائد، ومن يقول إن القرآن لا يمكن أن يكون ذكوريًّا يشير إلى النصوص والمقاصد التي تنهضُ بمساواة الرجل والمرأة في الكرامة والتكاليف الدينية الأساسية. ولعلّ هذا الاختلاف في الرأي دليلٌ على حيوية النص القرآني وثراء علوم التفسير، وفي الوقت نفسه دعوةٌ إلى مزيدٍ من الدراسات والحوارات الجادة التي توازن بين النصّ وثوابته وبين الواقع المتجدد وقضاياه.


المصدر: تشات جي بي تي

أخبار تسعدك

اترك تعليقاً