موسيقى الحياة: بين الجينات، الأنظمة، والتناغم الخفي – فهم الحياة كسيمفونية متكاملة

مقدمة: سؤال “ما هي الحياة؟” وأبعاده المتعددة
لا شكّ أنّ سؤال “ما هي الحياة؟” هو أحد أعمق الأسئلة الفلسفية والعلمية التي طرحها الإنسان عبر تاريخه؛ إذ لا يقتصر مدلول هذا السؤال على جانب واحد، بل يتشعّب ليشمل مستويات متعدّدة من الفهم. ففي عالمنا الحديث، تباينت الإجابات باختلاف تخصّصات الباحثين: فالعلماء في الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا والفلسفة، كلٌّ ينظر إليه من نافذة منهجه وأدواته المفاهيميّة. إلا أنّ التسارع الكبير الذي شهدته البيولوجيا الجزيئية خلال العقود الأخيرة غيّر وجهة النظر جذريًّا تجاه هذا السؤال وجعلنا نعيد التفكير مرارًا وتكرارًا في طبيعة الكائنات الحيّة، وفي أصل تكوينها، والكيفية التي تنتظم بها الجينات والخلايا والأعضاء والنظم الحيوية لتوليد مظاهر الحياة كما نعرفها.
الجزء الأول: نظرة تاريخية على تصوّرنا لمفهوم الحياة
-
ما قبل علم الوراثة الجزيئية
قبل نحو قرن من الزمن، لم يكن لدى العلماء فهمٌ متكامل لكيفية انتقال الصفات الوراثية ولا لكيفية تنظيم الخلايا وظائفها؛ فقد كانت النظرة حينذاك أنّ “الحياة” قد تنشأ من قوّة أو “مبدأ حيوي” ما يتجاوز القوانين الفيزيائية والكيميائية المعروفة. عُرفت هذه الرؤية باسم “الحيوية” أو “الفِيتاليّة” (Vitalism). اعتقد بعض الباحثين أنّ الكائن الحيّ فيه جوهرٌ متعذّر التفسير بقوانين المادة وحدها؛ أي إنّ هناك في كل كائن حي “شرارة” أو “قوّة حيوية” لا يمكن تقصّيها بالتجارب الكيميائية أو الفيزيائية المعتادة.لكن تدريجيًّا، تضاءل هذا المفهوم بفضل اكتشافات متتالية في علم الكيمياء الحيوية وعلم وظائف الأعضاء (الفيزيولوجيا)، حيث تبيّن أنّ الظواهر الحياتية كالتنفّس والتمثيل الغذائي والحركة ليست سوى تفاعلات كيميائية وفيزيائية منظمة. وبفضل نماذج تجريبية -مثل دراسات آلان هودجكن وأندرو هكسلي حول الأعصاب، ودراسات آخرين في كيفية انقباض العضلات- أخذت تلك الرؤية (القائمة على قوانين الفيزياء والكيمياء) تكتسب أرضًا صلبة، ممّا جعل فكرة “الجوهر الحياتي الماورائي” تتوارى تدريجيًّا.
-
اكتشاف الحمض النووي DNA ونشأة “الهوس الجيني”
وصلت طفرة معرفية فارقة في خمسينيات القرن العشرين، تحديدًا عام 1953 مع إعلان جيمس واتسون وفرانسيس كريك اكتشاف البنية الحلزونية المزدوجة لجزيء الحمض النووي DNA، ثم تلت ذلك أبحاث تأكيدية تُظهِر أنّ الـDNA هو المادّة الوراثية التي تنقل الصفات من جيل إلى آخر. أطلق هذا الحدث ثورة هائلة في علم الأحياء الجزيئي.خلال العقود التالية، ترسّخت رؤية جديدة داخل المجتمع العلميّ: رؤية تميلُ إلى جعل الجين “المحرّك الأوّل” لكلّ العمليات الحيوية في الكائن الحي، ومن ثَمَّ صارت اللغة العلمية (والإعلامية) تتحدّث عن “برامج جينية” (Genetic Programs) و”شفرات وراثية” (Genetic Code) و”كتاب الحياة” (The Book of Life)، إلى درجة انزلاق البعض في ما يُسمّى بـ”هوس الـDNA” أو DNA mania. أي أنّ ثمّة مبالغة واسعة في عزو كلّ أشكال السلوك والوظائف الحيوية إلى الجينات وحدها، كما لو أنّها المسيطر الأوحد.
-
مشروع الجينوم البشري وتصاعد الآمال
عندما وُضع مشروع الجينوم البشري موضع التنفيذ في تسعينيات القرن العشرين، ترافق مع وعود كبيرة بأنّه حالما نحصل على “التسلسل الكامل” للحمض النووي البشري (3 مليارات قاعدة نيتروجينية) فسوف نقف على “كتاب الحياة” ذاته، ونستطيع تحديد الجينات المسؤولة عن كلّ مرض وسلوك وخصيصة. لكن بعد اكتمال المشروع (بصورة أولية) مطلع الألفية، بدأت خيبات الأمل نسبيًّا بالظهور؛ إذ لم تتحقّق التوقّعات المتفائلة بالسرعة المرجوّة. صحيحٌ أنّنا اكتشفنا عددًا هائلًا من الجينات وتعرّفنا إلى تسلسلها، لكنّنا لم نستطع أن نرسم صورة نهائية مُبسَّطة تشرح بدقّة كيفية بناء إنسان من مجرّد خريطة جينية. -
إعادة طرح سؤال: لماذا لم يتحقّق الوعد الجيني؟
أدّى التقدّم في فك تسلسل الجينوم البشري إلى مفاجأة أخرى: كان متوقّعًا أن يفوق عدد الجينات البشرية 100 ألف جين، فإذا به نحو 20 إلى 30 ألف جين فقط، وهو رقم مقارب لجينات حيوانات أخرى أقلّ تعقيدًا؛ هذا طرح سؤالًا أساسيًّا: كيف يستطيع هذا العدد “المتواضع” من الجينات توليد كلّ تلك التعقيدات في بنيتنا التشريحية والوظيفية والنفسية؟الإجابة بدأت تتبلور: الجينات لا تعمل فرادى، بل تتفاعل في شبكات معقّدة من البروتينات والعناصر التنظيمية والإشارات الكيميائية والبيئية، ومن خلال عمليات تغذية راجعة صاعدة ونازلة، ما دفع بالعلماء إلى إعادة النظر في تفسير النظم الحيوية عبر تكامل مستويات عديدة، لا مستوى واحد.
الجزء الثاني: من الجزيئات إلى النظم – هل الجين هو “البرنامج” أم “قائمة بيانات”؟
-
الرمزية الخاطئة: “الـDNA يبرمج كل شيء”
لعلّ أشهر تعبير شاع في الثقافة العلمية الشعبية هو وصفُ الـDNA بأنّه “البرنامج” (Program) الذي تتحرّك به كل خلية في الكائن الحي. قد يبدو هذا التشبيه بديهيًّا للوهلة الأولى: فلدينا أربع قواعد نيتروجينية (A,C,G,T)، تشبه لغة البرمجة الثنائية (0،1) في الحواسيب. لكنّ التدقيق العميق يُظهر أن هذا التشبيه يوقعنا في إشكالات عدّة:- إنّ الحمض النووي الـDNA “لا يفعل” شيئًا بمفرده؛ إذ لا بد من آليات خلوية كاملة -كالإنزيمات والرايبوسومات وبروتينات النسخ والترجمة- لتقرأ هذه “الشيفرة”.
- كثيرٌ من الجينات (أو ما تسمّى “مناطق جينية”) يمكن أن تُقرأ بطرق مختلفة (حذف إنترونات، أو وصل تقاطعات مختلفة بين الإكسونات)، مما يسمح بتعدد نواتج بروتينية من الجين الواحد.
- هناك أشكال متعددة من “التعديل بعد النسخ” (Post-transcriptional regulation) على الرنا، والتعديلات بعد الترجمة على البروتينات.
- للخلايا آليات تعويضية (Redundancy)؛ إذا تعطّل جينٌ ما جزئيًّا، قد يُعوَّض عنه عبر جينات أخرى.
هذه التعقيدات، والتي من أبرز أمثلتها أنّ جينًا واحدًا يمكنه ترميز بروتينات عدّة تبعًا لأسلوب “التوصيل البديل” (Alternative Splicing)، أكسبت النظرة الجينية القديمة قدرًا من الاهتزاز. فالجين ليس “صانع الكائن” بشكل مباشر، إنّما يمكن اعتباره “قاعدة بيانات” (Database) تحتوي احتمالات بناء أنواع مختلفة من البروتينات. إنّه يشبه “قرصًا مضغوطًا” (CD) عليه مجموعة هائلة من الرموز، لا تعني شيئًا إلّا إذا وُجدت آلة (قارئ الأقراص) قادرة على فهم تلك الرموز وبثّ الموسيقى. فكذلك الـDNA: قد يحمل ملايين الشفرات، لكنّها لا تُستخدم فعلًا إلّا في ضوء السياق الخلوي.
-
المقارنة بـ”الكتاب”: هل الجينوم “كتاب الحياة” حقًّا؟
انتشر في أدبيات العلم والإعلام مصطلح “كتاب الحياة” (Book of Life) كإشارة إلى تسلسل الـDNA الكامل في الكائن. لكن عند التدقيق نجد أنّ هذا “الكتاب” يخلو من وصفٍ للعديد من “العمليات الطبيعية” التي لا تحتاج الخلية إلى “برمجتها” جينيًّا، مثل خصائص الماء والدهون والروابط الكيميائية التي تكوّن التراكيب الهيكلية. فالـDNA لا يصف “كيفية تمايز الأشكال” بل يُحدِّد تسلسلًا لبروتينات معينة، تاركًا لكيمياء البروتينات والبيئة الخلوية العمل على طيّ هذه السلاسل وتكوين أشكال ثلاثية الأبعاد.إنّه إذًا أشبه ما يكون بـ”دليل جزئي”؛ فلو افترضنا امتلاكنا “وصفة” لإعداد طبخة لا تفصّل كل خطوة كيميائية وفيزيائية تحدث تلقائيًّا، فإننا لا نلوم الوصفة على عدم التوضيح؛ إذ إن الطاهي يعرف تلك الخطوات بداهة. كذلك التطوّر الطبيعي لم يحتج أن يكتب “جينةً” لكل التفاصيل، لأنّ الخلايا تملك البنى الأساسية الكيميائية والفيزيائية للتشكّل الذاتي.
-
البُعد التحليلي: الجينات ليست مسؤولة وحدها عن بناء الوظائف
ليست هناك جينة (Gene) واحدة أو حتى عدّة جينات معدودة تختصّ بوظيفة معقّدة واحدة. في واقع الأمر، تبيّن أنّ أي وظيفة فيزيولوجية -مثل نبض القلب أو انقباض العضلات أو إفراز الإنسولين- تنتج من تفاعل مئات أو آلاف الجينات عبر شبكات متداخلة من البروتينات والإشارات الخلوية. أضف إلى ذلك أنّ الجين الواحد عادةً ما يكون له أدوار في أنسجة مختلفة، وأحيانًا متباينة جدًّا. وهذا يقودنا إلى القول إنّ الطريقة القديمة لتسمية الجينات بـ”جين الذكاء” أو “جين الطول” أو “جين السكري” تبسيط مخلّ.من هنا ارتفعت أصوات علماء الأحياء النُظُميّة (Systems Biologists) بوجوب دراسة الكائن الحي عبر مستويات تنظيمه كافة، بدءًا من الجزيئات الصغيرة ثم البروتينات والخلايا والأنسجة وصولًا إلى الأعضاء والأجهزة، ثم ربط هذه المستويات معًا في كلّ متكامل. فمن الواضح أنّ تركيزًا مبالغًا فيه على الجزيئات وحدها لن يُكسبنا سوى صورة جزئية قد تفيد في تفسير بنية البروتين أو وظيفته، ولكنّها لا تفسّر كيف تتكامل آلاف المسارات والعمليات داخل الجسم لتنتج الظواهر الحياتية الكبرى.
الجزء الثالث: الصعود والنزول – السبيل إلى فهم تكاملي للحياة
-
علاقة الأجزاء بالكلّ: السبيل إلى “وضع هَمبتي دمبتي معًا من جديد”
ظلّت البيولوجيا المعاصرة، ولا سيّما بعد طفرة الأحياء الجزيئية، تميل إلى مبدأ “التقليصية” (Reductionism): قسّم النظام الحيويّ إلى أجزاء أصغر فأصغر لفهم “الآلية الجزيئية” أو “الآلية الكيميائية” المفسّرة لوظيفة ما. قد نجح هذا المنهج كثيرًا في الوصول إلى إنجازات كبرى؛ لكن برزت عقبة: كيف نعيد بناء الصورة الكاملة من تلك الأجزاء المشتتة؟لو شبّهنا الكائن الحي بالقصيدة أو المقطوعة الموسيقية، فالفهم الجزيئي المشابه للتقليصية يشبه تفكيك المقطوعة إلى نغمات مفردة. إنّ التعرف على كل نغمة أو كل علامة موسيقية لا يشرح لنا بالضرورة الجوّ الفني للمقطوعة عند عزفها متكاملة.
ومن هنا ظهر ما يُسمّى بـ”علم الأحياء النُظمي” (Systems Biology) بوصفه الحقل الذي يحاول تجميع الأجزاء في شبكات تفاعلية لفهم الكيفية التي تولّد بها التفاعلات خصائص جديدة (أو كما تسمّى “خصائص ناشئة” Emergent Properties). يقال أحيانًا إنّ الهدف الأكبر لعِلْم الأحياء النظمي هو “وضع همبتي دمبتي معًا من جديد”؛ أي إعادة تركيب الصورة الكاملة للكائن بعد أن كسرناه إلى عشرات آلاف القطع من الجينات والبروتينات.
-
الصعود من الأسفل إلى الأعلى والنزول من الأعلى إلى الأسفل
اعتاد بعض العلماء تسمية منهجين متعارضين لفهم الأنظمة الحيوية:- منهج “من الأسفل إلى الأعلى” (Bottom-up): يبدأ من الجينات ثم يدرس البروتينات الناتجة ثم كيف تتفاعل في الخلية، ثم كيف تُبنى الأعضاء، إلخ.
- منهج “من الأعلى إلى الأسفل” (Top-down): يبدأ من الظاهرة الكلية (مثل كيفية ضخّ القلب للدم عبر الجسم) ثم يحاول تتبّع التفاصيل الصغرى التي تدعم تلك العملية شيئًا فشيئًا.
كلا المنهجين ضروريّان، لكن لكلٍّ منهما مشاكل إذا عمل وحيدًا. فلو حاولنا تحليل كلّ ذرة أو جزيء على حِدَة في جسم الإنسان بالمقاربة الجزيئية الكاملة (Bottom-up) فسوف نحتاج حسابات كومبيوترية خيالية تتجاوز قدرة حواسيب الأرض بمليارات المرات، وهذا غير عملي إطلاقًا. أمّا لو بقينا في المستوى الفسيولوجي الكلّي دون نزول إلى التفاصيل الجزيئية، فقد نفوّت فرصًا لفهم الآليات الدقيقة للأمراض والتداخلات العلاجية.
الحلّ إذًا في منهج مرن يجمع بين الأمرين؛ هناك مَن أطلق عليه “المنهج الأوسط” (Middle-out)؛ أي: نبدأ من مستوى مناسب -قد يكون الخلية أو النسيج- ثم ننطلق صعودًا إلى مستوى الأعضاء أو الأنظمة، أو نزولًا إلى مستوى الجزيئات حسب الحاجة. وبذلك نوفّر في المعلومات والموارد ونربط بذكاء بين التفاصيل المجرّدة والرؤية الكلّية.
-
أمثلة توضيحية: دقات القلب والتوازن الكهربائي
لعلّ أوضح مثال لكيفية تشابك المستويات المتعدّدة: ظاهرة نبض القلب. إنّ كلّ دقّة قلب تحوي مكوّنًا كهربائيًّا (انتقال السيالات الكهربائية عبر ألياف عضلة القلب) ومكوّنًا كيميائيًّا (حركة أيونات الصوديوم والبوتاسيوم والكالسيوم عبر الأغشية الخلوية)، فضلًا عن تنظيم فسيولوجي كلّي (أوامر عصبية وهرمونية تتحكّم بسرعة نبض القلب).- على المستوى الجزيئي: تفتح وتغلق قنوات أيونية (Channels) في غشاء الخلية بناءً على اختلاف الجهد الكهربائي.
- على المستوى الخلوي: ينتج عن هذا التغيّر في الجهد تيار كهربائي يحفّز تقلّص العضلة القلبية.
- على المستوى العضوي: تعمل الحجُرات القلبية الأربع بانسجام لضخ الدم بكفاءة نحو الرئتين وباقي الجسم.
- على مستوى الجهاز ككل: تتحكّم إشارات عصبية وهورمونية بمعدّل النبض بناءً على الحالة البدنية أو الانفعالية.
قدّم هذا المثال فهمًا متكاملاً للآليات الصغرى مع دور المشرف الكلّي. كما أعطى درسًا في “التغذية الراجعة”: فالخلايا تؤثّر على قيمة الجهد الكهربائي (Upward Causation)، لكنّ هذا الجهد ذاته يؤثّر في سلوك القنوات الأيونية (Downward Causation). بهذا يظهر أنّ الحتمية الجينية “من الأدنى إلى الأعلى” ناقصة دون دمج الأدوار التنظيمية الكلّية.
الجزء الرابع: “الأنانية” أم “التعاون”؟ إعادة تقييم دور الجينات
-
تشبيه “الجين الأناني” وامتداداته
أصدر ريتشارد دوكينز عام 1976 كتابه الشهير “الجين الأناني” (The Selfish Gene) ليقدّم رؤية جديدة لعالم الأحياء التطوري. باختصار، جادل دوكينز في أنّ الانتقاء الطبيعي قد يُفهَم عبر منافسة جينات بعضها بعضًا على البقاء؛ فالجين “الأناني” هو ذلك الذي يستطيع أن يستنسخ نفسه بأكبر قدر ممكن، حتى لو بدت ظواهر الكائن الحيّ “تعاونية”.لقي هذا الطرح رواجًا إعلاميًّا، لكنّه قوبل بانتقادات جادّة. أوّل النقد أنّ مثل هذه اللغة تدفع بسهولة نحو “الحتمية الجينية” (Genetic Determinism)، وكأنّ الإنسان أو أي كائن آخر “روبوت” مجبول على تنفيذ أوامر جينية. ومن المفارقات أنّ دوكينز نفسه نبّه إلى أنّ الأمر ليس حتميّة؛ هو يستعمل “الأنانية” بوصفها استعارة للشرح، لا حقيقة حرفية.
-
المغالطة في نسبة الفعل إلى الجينات
يرى نفرٌ متزايد من علماء الوراثة والبيولوجيا النُّظُمِيّة أنّه لا جدوى من ذكر “الجين يفعل كذا”؛ فالجين نفسه لا يفعل شيئًا ما لم تقرأه الخلية وتوفّر له الآلات البيوكيميائية لإنتاج البروتين. الأصحُّ الحديث عن “الجين يُستَخدَم” أو “يُعبَّر عنه”.ناهيك بأنّ الجينات تعمل في سياق تفاعلي مع جينات أخرى وبروتينات أخرى، فمن المستحيل تقريبًا عزل “جين مسؤول وحيد” عن صفة معقّدة. بل إنّ العمل يتوزّع عبر شبكات “جين-بروتين” (Gene-Protein Networks)، تتلاعب بها الخلية بحسب المرحلة التطوّرية أو ظروف البيئة أو الحاجة الوظيفية.
-
الوجه الآخر للتشبيه: “الجينات السجينة”
اقترح بعض الباحثين استعارة مناقضة: بدلًا من تصوير الجين وكأنّه كيان “أناني”، يمكن وصفه بأنّه “سجين”؛ إذ هو محبوس داخل الكائن الحي، ولا يمكنه التكاثر أو النفاذ إلا إذا تمكّن الكائن كلّيًّا من البقاء والتكاثر. بالتالي، مصلحته الحقيقية في “التعاون” مع جينات أخرى وبروتينات أخرى لإنجاح النظام، لا في تدميره.والواقع أنّ ثمّة تواؤمًا بين الاستعارتين. كل استعارة تبيّن جانبًا مختلفًا من الحقيقة. إنّ “الأنانية” توضّح كيف يسعى أي عنصر وراثي إلى زيادة نَسْخه الوراثي؛ لكن “السجن” يذكرنا بأنّ الجين لا يستطيع أصلاً التصرّف إلا في حدود آليات النسخ والترجمة والتغذية الراجعة. لا يمكن اختبار أيهما صحيح تجريبيًّا؛ لأنّ كلا التشبيهين يعمل على مستوى مجازي، لا حرفي. المهمُّ هو ألا نخلط بين التشبيه والواقع، وأن ندرك محدودية كل منهما.
الجزء الخامس: وظائف أعلى تظهر من تآزر الأجزاء – مثال نظم القلب مجدّدًا
-
كيف ينشأ الإيقاع (الريثم)؟ مثال دقّة القلب
الكثير من الأعضاء الحيوية تحتاج إلى نمط تردّدي، كالدماغ الذي يولّد موجات كهربائية في الخلايا العصبية أو العضلات التي تنقبض باختلاف التواتر. أمّا القلب فنبضه يحوي تردّدًا منتظمًا مدهشًا. في الألياف العصبية، نجد أنّ النبضة الكهربائية تستمر جزءًا من الألف من الثانية؛ لكن في القلب قد يستمر التحفيز الكهربائي مئات الأضعاف.إنّ “خلايا الناظمة القلبية” (Pacemaker cells) في العقدة الجيبية الأذينية (SA node) قادرة على توليد الدقات ذاتيًّا دون الحاجة لمحفّز عصبيّ (وإن كان العصب اللاودي والودي يعدّل السرعة). ويقول النموذج الرياضي: ليست هناك جينة واحدة أو بروتين واحد أو حتى تذبذب بسيط قابل للعزل يخلق هذا الإيقاع؛ بل ينتج النظم عن تفاعل ديناميّ متبادل بين قنوات أيونية عدة (مثل قنوات البوتاسيوم السريعة والبطيئة، وقنوات الصوديوم والكالسيوم، وكلها تتأثّر بالجهد الكهربائي عبر الغشاء).
-
ظاهرة التغذية الراجعة والسببية النازلة
عند زيادة أو تقليل نشاط إحدى القنوات الأيونية، قد تحلّ قناة أخرى محلّها جزئيًّا، فيبقى الإيقاع الكلي محفوظًا أو لا يتعطّل إلا قليلًا. هذه الظاهرة تسمّى أحيانًا “الاحتياطي” (Redundancy) أو “قابلية التعويض” (Compensation). وهذا ما يجعلنا أحيانًا لا نرى تأثيرًا جذريًّا عند كسر (Knock out) جين ما؛ لأنّ شبكة الجينات المساندة تُسرع لسد العجز.وهنا بالضبط موضع الحديث عن السببِيّة النازلة (Downward Causation): صحيحٌ أنّ انفتاح القناة الأيونية يؤثّر في الجهد الكهربائي للخليّة، ولكن أيضًا هذا الجهد نفسه يقرّر ما إن كانت القناة ستنفتح أو تنغلق؛ فهناك حلقة بين المستويين “العلوي” (المتمثّل في الخصائص الكهربائية على نطاق الخلية) و”السفلي” (البروتينات الفردية). كلاهما يضبط الآخر.
الجزء السادس: الوراثة فوق الجينية والتمايز الخلوي – اكتشاف نوع من “لاماركية” داخليّة
-
ظاهرة التمايز الخلوي
لو تأمّلنا جسم الإنسان، لوجدنا ما يزيد على 200 نوع مختلف من الخلايا: خلايا عظمية، عصبية، جلدية، كبدية، إلخ. لكن ما يثير الدهشة أنّ كل تلك الخلايا تحمل الحمض النووي المتطابق نفسه (باستثناء الخلايا الجنسية ذات نصف العدد الكروموسومي). إذًا ما الذي يجعل خليّة تنضج لتصبح عصبية والأخرى لتصبح جلدية؟السرّ يكمن في “أنماط التعبير” (Expression Patterns) التي يتّخذها الـDNA داخل كلّ خلية، إذ لا تُفعَّل كلّ الجينات بالقدر ذاته في مختلف أنواع الخلايا. هناك آليات “وضع علامات” كيميائية (مثل المثيلة Methylation) على بعض مناطق الحمض النووي أو هيكل الكروماتين، فتسمح لبعض الجينات أو تثبّط جينات أخرى، مما ينتج هوية خلوية مختلفة.
-
الوراثة خارج إطار الجينوم: الذاكرة الخلوية
هذه الآليات تشكّل نوعًا من الوراثة فوق الجينية (Epigenetics). وعندما تنقسم الخلية، تُمرَّر هذه العلامات الكيميائية إلى الخلايا البنات؛ أي إن الخلية “تحافظ” على هويتها المكتسبة، وتورّثها لنسلها من الخلايا. مما يعني نوعًا من “اكتساب” لخصائص جديدة و”وراثتها” – ولو مؤقتًا – بمعزل عن تغيّر في تسلسل الـDNA ذاته.هذا يذكّرنا بمفهوم “توريث الصفات المكتسبة” (Lamarckism) الذي جرى رفضه في الإطار التقليدي للداروينية الجديدة (Neo-Darwinism). غير أنّ التمايز الخلوي دليل على آليات توريث لا تعتمد تغيّر الشفرة الوراثية مباشرة. وإن كانت لا تنتقل عادةً عبر الأجيال (الجِرميّة) إلا في حالات نادرة، فهي في المقابل نموذج حيّ لـ”لاماركية” تعمل داخل الكائن الحي الواحد. وقد يكون الانتقاء الطبيعي قد حصر هذه الوراثة فوق الجينية في نطاق “غير جرثومي” (أي خارج الخلايا الجنسية) لتجنّب ارتباكات هائلة لو انتشرت بصورة أشمل.
-
دروس في التعايش والتعاون الخلوي
“الخلايا” في الكائن متعدد الخلايا تعيش معًا في انسجام. وعلى غرار جينات “سجينة” داخل الخلية، فالخلية نفسها “سجينة” داخل العضو أو النسيج، تتعاون مع سائر الخلايا لتكوين الكائن. أيّ انحراف خطير عنها قد يؤدي إلى “سرطان” أو إخفاق وظيفي. لذا فإنّ وجود نظم حازمة في تنظيم التعبير الجيني فوق الجيني هو سرّ نجاح بناء أجسام الكائنات المعقّدة. في ضوء هذا، يمكن الحديث عن “التناغم الموسيقي” داخل الجسم، حيث تُعزف آلاف النغمات الجزيئية في الوقت المناسب، ضمن “مفاتيح” و”مقامات” متعدّدة تشبه لغات مختلفة متشابكة، لكنها في النهاية تعمل بانسجام يضبطه مزيج من القواعد اللاواعية والظروف المحيطة.
الجزء السابع: الدماغ والوعي والإشكاليات الفلسفية
-
هل الدماغ هو “مسرح العقل”؟
إذا كانت بقية أعضاء الجسم تساعد في تسيير عمليات الحياة العضوية؛ فإنّ الدماغ يتميّز بكونه الأساس العصبي للوعي والإدراك والفكر. تقليديًّا، اعتقد الكثيرون أنّ ثمّة “مسرحًا” داخل الدماغ تُعرَض عليه المدركات الحسيّة، وهناك “ذات” تشاهدها أو تراجعها. لكن من منظور الأحياء النُّظُمِيّة والفلسفة التحليلية المعاصرة، يظهر أنّ هذا التصوّر ينطوي على ثنائيّة (Dualism) خفية، تُفترض فيها “ذات” منفصلة تراقب خريطة حسية. -
المعضلات اللغوية والفلسفية: “الكواليـا” (Qualia)
كثيرون يستخدمون مصطلح “الكواليا” للإشارة إلى التجارب الذاتيّة المباشرة مثل الإحساس باللون أو بالألم، زاعمين أنّه لا أحد يمكنه النفاذ إلى خبرة شخصٍ آخر الخاصة، وأنّ هذه الخبرة “داخلية” بمعنى لا يمكن اختزالها في وصف فيزيائي. يرى آخرون أنّ هذا الفصل مجرد لبس لغوي؛ إذ كيف يمكن أن يكون هناك “معطًى” داخليٌّ مفصولٌ عن العمليات العصبية المادّية التي يمكن قياسها وتصويرها؟هكذا يصطدم علماء الأعصاب بأسئلة تطرحها الفلسفة: من هو “الأنا”؟ هل هناك “ذات” تنفصل عن مجموع التفاعلات الدماغية؟ أم أنّ “الأنا” ليست سوى اسم لوصف الحالة الشاملة للدماغ والجسم معًا؟ لماذا نظنُّ بديهيًّا أنّني “موجود في دماغي” بدلًا من القول إنّني “موجود حيث يوجد جسدي”؟
-
هل يمكن أن يكون الوعي خواصًّا “ناشئة”؟
يمكن القول من منظور علم الأحياء النُّظُمِيّة إنّ “الوعي” أو “الذات” خاصيّة عليا ناشئة (Emergent) من تفاعل مليارات الخلايا العصبية وبُناها التشابكية؛ فلا معنى للبحث عن “خليّة الوعي” ولا عن “مركز الوعي” إن لم يتوفر الكلّ، وذلك على غرار أنساق أخرى (مثل إيقاع القلب). فإن لم يوجد “عصبون أو شبكة عصبية” تملك بمفردها “الإحساس”، بل ينشأ الإحساس ككلّية. -
تجارب الفكر: زراعة الدماغ وتجميده
من أغرب التساؤلات: ماذا لو جمّدنا دماغ شخص في النيتروجين السائل وأفقناه لاحقًا في جسم جديد؟ هل سيُبعث الشخص نفسه؟ وهل ستكون “شخصيّته” القديمة محفوظة؟ وهل يستقيم الحديث عن “هوية” إذا كان الدماغ يعيش في وسط كيميائي مختلف تمامًا؟ كلّ هذه الأسئلة تظهر هشاشة فكرة أنّ الذات “تنبع فقط من الدماغ” وتنفي تمامًا دور بقية الجسم.إذن، الصورة الأكثر تكاملًا: لا وجود لذات مُختزلة في الدماغ فحسب، وإنما تفاعلات الجسم والدماغ كلّها مجتمعة تولّد ما ندعوه بالإنسان الواعي أو الكائن الحيّ. إذا أزلنا أجزاء الجسم شيئًا فشيئًا (كالبصر والسمع واللمس…) تقلّصت فرص التعبير عن الذات، إلى أن تضيع أي إمكانية للتواصل، فنفقد المعنى العلمي لوصف هذه “الكتلة العصبية” بكائن “ذاتي” واعٍ.
-
التجارب الروحية والثقافية المغايرة: الدروس من لغات الشرق الأقصى
من اللافت أنّ لغات شرق آسيا (اليابانية، الصينية، الكورية…) غالبًا ما تستغني عن ضمير المتكلّم (الأنا) في كثير من الجمل، فتعطي أولوية أكبر للفعل أو السياق. هذا قد يسهّل في ذهنية أهل تلك الثقافات تبنّي مفهوم “اللاذاتية” أو “الذات ليست جوهرًا ثابتًا بل عملية”.البوذية مثلًا، بنهجها اللاجوهراني، تذهب إلى أنّ الوعي والتيّار الذهني يتجدّد لحظة بلحظة، ولا حاجة لافتراض “جوهر” منفصل هو النفس أو الذات. ويشبّهون الذهن المتقلّب بـ”ثور هائج” يحتاج إلى ترويضه (كما في قصة الراعي والثور بالتراث الزِنّي). من المستغرب أن بعض هذه الأفكار له صدى علمي وفلسفي حديث، يفيدنا في علاج بعض الاضطرابات النفسية والتأمّل (Meditation) وتخفيف وقع “الأنا” المفرطة.
الجزء الثامن: نحو رؤية موسيقية للحياة
-
لماذا التشبيه بالموسيقى؟
يشبِّه البعض الحياة بالموسيقى، لأنّ الموسيقى فعلٌ وزمنٌ وحدثٌ يجري تدفقه لحظة بلحظة، ولا يمكننا اختزاله في نوتة واحدة أو “دي إن أي” موسيقي منفرد. كذلك الكائن الحي يتخلّق باستمرار من عمليات تبادلية: جزيئات تتغيّر، خلايا تتجدّد، أنسجة تنمو، إشارات تتدفق. إنّه “لحنٌ متواصل” من الظواهر البيولوجية المرتبطة بالتطوّر والتكيّف والبيئة.فإذا تأمّلنا الجينوم كأنّه “أرغن ضخم” فيه 20 أو 30 ألف “قصبة”؛ فهو يتيح عددًا لا متناهيًا تقريبًا من التركيبات اللحنية، لكن لا يمكن استخراج الألحان دون “عازف”؛ أي دون آليات تنظيمية ذاتية، وخلفيات بيوكيميائية، وتحكّم من مستويات أعلى.
وعليه فلا وجود لـ”مؤلّف موسيقي” وحيد (مقصود به الجين أو الدماغ) يتحكّم في كلّ شيء؛ بل إنّ الانسجام الموسيقي نفسه “ينشأ” من شبكة ديناميكية للآلات والعازفين تتكيّف وتتفاعل دون قائد واحد مفارق.
-
سؤال “ما هي الحياة؟” في ختام المطاف
حين نستعرض الأفكار السالفة، نرى أنّ سؤال “ما هي الحياة؟” ينبغي أن يُعاد طرحه دوريًّا مع كل اكتشاف علمي؛ لأنّ الإجابة قابلة للتطور:- في منظور الفيزيولوجيا الكلاسيكية، الحياة هي مجمل العمليات الوظيفية المتكاملة.
- في منظور الجزيئات، الحياة هي تفاعلات الـDNA وRNA والبروتين في وسط خلوي.
- في منظور الأحياء النُّظُمِيّة، الحياة هي بنية تكاملية من مستويات عديدة، حيث تؤثّر العمليات العليا في السُفلى، وتؤثّر السفلى في العليا، وكلّها تتبادل الإشارات بانسجام مرن.
- في مستوى الفلسفة، الحياة قد تتضمّن أبعادًا ذهنية وروحية وثقافية تختلف باختلاف اللغات والتجارب البشرية.
-
انفتاح الرؤية والمعرفة
ربما الدرس الأهم هو ضرورة اتّباع منهج أكثر شمولًا، يربط بين التحليل الكمي الدقيق للمكونات الجزيئية والتحليل النوعي الوظيفي على المستوى العالي. فأيّ “صورة أحادية” -تحتكر فيها الجينات دورًا مهيمنًا أو تختزل فيها العمليات النفسية في بعض الخلايا- إنما هي صورة ناقصة.إنّ العلم من طبيعته الانفتاح والتعديل المستمر للأفكار. فما دامت النتائج التجريبية تبيّن مستويات متراكبة ومتداخلة، فلا بدّ من أدوات منهجية قادرة على احتواء هذا التعقيد. وهي أدوات تجمع بين الرياضيات، والمحاكاة الحاسوبية، والدراسات الإكلينيكية، والتفكير الفلسفي حول اللغة والمفاهيم.
الجزء التاسع: خاتمة – حين ينسحب المؤلّف ويترك اللحن يستمر
في “قصة الأكس هيردر” بالتراث الزِنّي، يمرّ الراعي بمراحل عدة وهو يبحث عن ثوره، ويحاول ترويضه. وفي نهاية المطاف، “الراعي، الثور، الحبل” كلّها تختفي في صورة واحدة من السكون؛ كأنّها إشارة إلى أنّ كل ما بدا في البدء أشياءً منفصلة ومتضاربة اندمج في وحدة متناغمة. يشير هذا الرمز إلى أنّ العملية ذاتها قد تكون هي “الحقيقة الأعمق”؛ فلا خالق منعزل عن خليقه، ولا جين منفصل عن خلية، ولا دماغ منفصل عن جسد، ولا ذات منعزلة تراقب مسرحًا حسيًّا داخليًّا.
وعلى النهج ذاته، يمكن القول إنّ أسئلة جذريّة مثل: “من أين تأتي الحياة؟ وكيف تعمل؟” قد لا نصل فيها إلى إجابة نهائية جامدة، بل إلى عملية استكشاف مستمر. عِلْم الأحياء عبر الأجيال يقلّب “الصفحة” تلو الأخرى من “كتاب الحياة” المكتوب بجيناتنا وخلايانا وبيئتنا ووعينا؛ والإنسان يُعاود إعادة ترتيب الأفكار كلّما قفزت اكتشافات جديدة تغير رؤيته للمكان والزمان والذات.
المراجع المقترحة والملاحظات الختامية
- أشير في هذا المقام إلى الدور المحوري لمنظور “علم الأحياء النُّظُمِيّة” (Systems Biology) الذي لا يكتفي بتشريح الآليات الجزئية بل يربط المستويات -من الجينات والبروتينات وصولًا إلى الأعضاء والجسم ككل- بغية فهم الأنماط الناشئة (Emergent Patterns).
- الفهم الجزيئي الدقيق يتجلّى في أمثلة مهمة مثل شرح القنوات الأيونية وتجارب النمذجة الحاسوبية لعضلة القلب، التي نجحت -ولو جزئيًّا- في تكوين “قلب افتراضي” (Virtual Heart) يسمح بمحاكاة الأمراض القلبية ومتغيراتها، وهو إنجاز هائل يشير إلى إمكانات علمنا في هذا العصر.
- رغم ذلك، فإنّ خارطة الجينوم البشري لم تقدم حتّى الآن “حلًّا سحريًّا” للأمراض المعقدة. ففي علم الوراثة المرضية، تبيّن أنّ ما ظننّاه أمراضًا “مورّثة” بجين منفرد اتضح تعقّدُه بشكل كبير؛ لأنّ كل مرض يضم تفاعلات عريضة مع البيئة والأيض والسلوك.
- من الناحية الثقافية، الفلسفية، والدينية، تلقي اللغة البشرية أحيانًا ظلالًا على فهمنا لأنفسنا. ومن اللافت للنظر أنّ لغات أخرى كاليابانية والصينية قد تصف “الأحداث” أو “العمليات” قبل “الذوات”؛ الأمر الذي يسهل ربما قبول فكرة “انتفاء الجوهر الثابت للذات” أو “أنّ الذات مجرّد عملية ناشئة”.
الخلاصة
يوصلنا هذا السياق إلى خلاصة رئيسية: إنّ الحياة ليست شيئًا واحدًا بسيطًا يمكننا الإمساك به من خلال جين واحد أو مستوى واحد من التحليل، وليست فقط حصيلة قوانين فيزيائية تُطبّق خطّيًّا من الأسفل للأعلى. إنّها بالأحرى “سيمفونية” متقنة تعزفها مختلف المكوّنات -من جينات وخلايا وأعضاء ونُظم عصبية وهرمونية وحسية- في آنٍ معًا، مع وجود حلقات تغذية راجعة صاعدة ونازلة تجعل الكلّ ينظّم الأجزاء والأجزاء تتفاعل في الكلّ. وتمامًا مثلما أنّك لا تجد المؤلِّف في كل نغمة يعزفها العازفون، بل هو حاضر غائب في كامل اللحن، فليس هناك “موضع” جامد للبرنامج الأصلي. الجينوم قاعدة بيانات، والبروتينات والآليات الخلوية هي الآلة العازفة، والبيئة الداخلية والخارجية هي التي تضبط النسق؛ أمّا “الحياة” نفسها فهي اللحن في شموليّته وتغيّره الدائم.
إنّ هذا الوعي بضرورة التكامل يعيد صياغة سؤال “ما هي الحياة؟” ليصبح سؤالًا عن كيفية انبثاق الخصائص الذهنية والوعي والوظائف الفيزيولوجية والتكيّف التطوري من تفاعل مذهل بين مستويات شتّى. وقد نكون ما زلنا في بداية رحلة طويلة لاكتشاف ما أخفاه “كتاب الحياة” من أسرار، مدركين أنّه كتاب مفتوح، صفحاته ليست مكتوبة بحبرٍ صلب على ورق، بل بخيوط جينية مرنة، وبروتينات متغيّرة، وخلايا تنمو وتموت، وبيئة تستحثّ المزيد من التحولات، وصولًا إلى دماغ واعٍ وعواطف وأفكار وثقافات.
ولعلّ أفضل ما نختم به هو الإشارة إلى أنّه في العلوم الحديثـة، نحتفي دومًا بمبدأ “التشكيك المنهجي” والتعديل المستمرّ للنظريات؛ فهذا ما يتيح للسؤال الرئيس – “ما هي الحياة؟” – أن يظلّ حيًّا، يواكب تقدّمنا المعرفي ويذكّرنا في كلّ جيل بجمال التعقيد الذي تنطوي عليه ظاهرة الحياة على الأرض.
مستخلص من كتاب “موسيقى الحياة” – البروفيسور دينيس نوبل – Music of Life – Denis Noble
كتبت بواسطة تشات جي بي تي