منهج سورة العصر للإصلاح والتغيير – من وجهة نظر علم النفس الإيجابي

منهج سورة العصر للإصلاح والتغيير – من وجهة نظر علم النفس الإيجابي

سورة العصر من السور القرآنية القصيرة في عدد آياتها، لكنّها عميقة في دلالتها وحمولتها المعنوية. فقد لخّصت في آياتها الثلاث مسار الإنسان في الحياة، وقدّمت رؤىً واضحة لكيفية الارتقاء وإيجاد معنى أعمق للوجود يجنّب الفرد والمجتمع خساراتٍ متراكمة تقود في النهاية إلى الفشل أو التدمير الذاتي. إذا تأمّلنا في هذه السورة من منظور علم النفس الإيجابي (Positive Psychology) – وهو العلم الذي يركّز على دراسة عوامل السعادة والرفاه النفسي والقيم الإيجابية التي تُسهم في بناء الشخصية الإنسانية المتوازنة – فسنجد أنّ سورة العصر تضع لنا خارطة طريق واضحة المعالم نحو النجاة، ليس على المستوى الفردي فحسب، بل على مستوى الإنسانية جمعاء.

يواجه عالمنا المعاصر تحديات خطيرة مثل الظلم والحروب والعنف والفقر والجهل، بالإضافة إلى كثير من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية. وعلى الرغم من التقدّم العلمي والتقني الهائل، إلّا أنّ هذه التحديات لا تزال قائمة، بل ربما تزداد حدةً، ما يدلّ على أنّ الحلول التكنولوجية والاقتصادية وحدها لا تكفي لإحداث التغيير الإيجابي المنشود. هنا تتجلّى أهمية المكوّن النفسي والأخلاقي والقيمي، الذي يضع الإنسان في قلب المعادلة، ويطالبنا بتغيير أنفسنا أولًا، من الداخل، قبل الانشغال بتغيير الخارج. ومن هذا المنطلق، تقدّم سورة العصر في كلماتها الموجزة أربعة أركان أساسية للنجاة: الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر. هذه الأركان إذا أسقطناها على الإطار النظري والتطبيقي لعلم النفس الإيجابي، سنجدها ذات صلة وثيقة بمفاهيم مثل المعنى في الحياة (Meaning)، والأمل (Hope)، والمرونة النفسية (Resilience)، والتواصل الاجتماعي الفعّال (Positive Relationships)، والمسؤولية الأخلاقية والمجتمعية (Responsibility).

في هذه المقالة المطوّلة، سنسعى لاستجلاء أبعاد سورة العصر من زاوية علم النفس الإيجابي، مع التركيز على كيف يمكن للبشرية أن تحقّق النجاة على المستوى الكلّي، وتتخطّى المخاطر المحدقة بها، من خلال تطبيق هذه العناصر الأربعة المنصوص عليها في سورة العصر. سنناقش دور الزمن (العصر) كرمزٍ لقرب الأفول وضرورة استثمار الوقت فيما ينفع، ثم سنخوض في طبيعة الخسارة والإنسانية التي تلوح في الأفق إذا لم نُعمل هذه المبادئ، وصولًا إلى الحديث التفصيلي عن كيفية تحقيق الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر في حياتنا وفي مجتمعاتنا، وكيف ينعكس ذلك على رفاه الإنسان، وازدهاره، وسعادته، وخلاصه من دوامة الظلم والحروب والعنف والفقر والجهل.


أولًا: مفهوم “العصر” في ضوء علم النفس الإيجابي

قال تعالى: “وَٱلۡعَصۡرِ (1)”
ابتدأت السورة بالقسم بـ”العصر”. والعصر في اللغة العربية يعني الوقت أو الدهر، كما أنه يختصّ بزمن معيّن في اليوم (آخر النهار وقبل غروب الشمس). وفي كلا المعنيين تنبيه للإنسان على محدودية الوقت، وأن ما بقي من الزمن أقصر ممّا مضى، وأنّ هناك نهاية لكلّ شيء. من منظور علم النفس الإيجابي، تشكّل فكرة إدراك محدودية الوقت أساسًا مهمًا في تحفيز الإنسان على اغتنام لحظاته فيما ينفعه، سواء على المستوى الشخصي أو المجتمعي.

  1. الإدراك العميق لهشاشة الحياة
    في علم النفس الإيجابي، من الأسس المهمة إدراك حقيقة فناء الحياة الدنيا، وهذا لا يعني الانكفاء أو القلق المرضي بشأن المستقبل، بل يعني تطوير حسّ بالمسؤولية واستثمار كل يوم في عملٍ يمنح الإنسان معنى (Meaning) ويساعده في التحسّن المستمر. وعندما يقوم القرآن الكريم بالقسم بـ”العصر”، فإنّه يستحضر في نفوسنا شعورًا بقيمة الوقت. ويمكن لهذا الشعور أن يدفعنا نحو الإيجابية والطموح وتحمّل المسؤولية إذا صاحبته نية جادّة ورغبة في البناء.

  2. الاستبصار بالقوانين التاريخية
    سورة العصر توحي أيضًا بأنّ الظلام آتٍ لا محالة، تمامًا كما يأتي الليل بعد النهار. وهذه إشارة عميقة بأنّ المجتمعات – إذا غفلت عن القيم الأساسية – فإنّها مهدّدة بأفول نجمها، كما حدث في حضارات عديدة عبر التاريخ. علم النفس الإيجابي لا يقتصر على الاهتمام بالجانب الفردي من النمو النفسي فقط، بل يهتم أيضًا بالجماعات والمجتمعات وكيفية دعمها للرفاه المشترك (Collective Well-being). إنّ الوعي بحتمية التدهور إذا لم نغيّر المسار، يجبرنا على طرح السؤال: ما الذي ينبغي فعله كي نتفادى ذلك المصير؟ وهنا تكمن براعة الإطار الفكري للقرآن بوجه عام، ولمثل هذه السورة بوجه خاص، حيث يجمع بين الوعي بالخطر والمسارعة في تقديم الحلول.

  3. التخطيط الاستراتيجي والتفكير المستقبلي
    يركّز علم النفس الإيجابي على أهمية وجود الأهداف والخطط المستقبلية (Goal Setting) التي تمنح الإنسان إحساسًا بالغاية. وإدراكنا لحقيقة “العصر” وحتمية الأفول يدفعنا إلى تحديد أهداف بنّاءة نسعى لتحقيقها قبل انقضاء الوقت. وهذا ينطبق على الفرد والأمّة والمجتمع الإنساني برمّته. فبدلًا من الاستغراق في مشاعر اليأس، يمكننا توظيف إدراكنا لقصر الزمن في بناء رؤى استراتيجية بعيدة المدى تعالج جذور المشكلات الكبرى كالفقر والجهل والظلم والعنف.


ثانيًا: مفهوم الخسارة المستمرّة والتدهور المتدرّج

قال تعالى: “إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَفِي خُسۡرٍ (2)”
في هذه الآية بيانٌ لحقيقة كونية: الإنسان في حالة خسارة مستمرّة، وقد يكون سبب الخسارة متعدد الجوانب: خسارة الوقت والعمر، خسارة الطاقات والفرص، خسارة الانسجام النفسي والاجتماعي، وغيرها. من منظور علم النفس الإيجابي، الاعتراف بهذه الحقيقة يفيدنا على مستويين:

  1. الوعي بالوضع الراهن
    أول خطوة في طريق النمو والتطوّر النفسي هي الاعتراف بالواقع كما هو. إذ لا يمكننا تغيير ما لا ندركه أو لا نعترف به. والآية الكريمة تشخّص حالة البشر الذين لا يدركون قيمتهم وقيمة وقتهم وحياتهم، فيحرقون أعمارهم في صراعاتٍ لا طائل من ورائها، أو في ملذات عابرة لا تصنع لهم معنى عميقًا في الوجود. من هنا يأتي دور الوعي الكامل (Mindfulness) الذي تشدّد عليه علوم النفس الحديثة، حيث يتعلّم الإنسان فنّ الاستبصار الذاتي والإدراك الواعي للحاضر والحقيقة.

  2. التحذير من التعثّر في مسار التدمير الذاتي
    القضايا التي تُقلق الإنسانية اليوم مثل الحروب والعنف والظلم والفقر والجهل، يمكن النظر إليها على أنها مظاهر عملية لهدر الإمكانات الإنسانية، وبالتالي تعميق الخسارة المستمرّة. كل يوم يمرّ ونحن نشهد حروبًا جديدة أو دمارًا إضافيًا، إنما يكشف عن مواضع من الخسارة تتسع وتبتلع المكاسب المحتملة. من منظور علم النفس الإيجابي، فإنّ مساعدة الأفراد والمجتمعات على تبنّي سياسات وقيم إيجابية ترتكز إلى التعاون والتعاطف والتضامن الاجتماعي، هي خطوة ضرورية لكبح هذا المنحنى التنازلي في حياة الإنسان.

  3. مواجهة الخسارة بالمرونة النفسية
    المرونة النفسية (Resilience) هي القدرة على النهوض مجدّدًا بعد العثرات والأزمات. حين يقول الله سبحانه وتعالى إنّ الإنسان في خسر، فإنّ هذا ليس حكمًا إلهيًا نهائيًا غير قابل للتغيير، بل هو بمثابة الإنذار الذي يأتي في صيغة تقريرية. وعلم النفس الإيجابي يلفت النظر إلى أنّ الأفراد الذين يطوّرون مهارات التكيّف الإيجابي (Positive Coping) قادرون على تقليل الخسارة والانتقال إلى مرحلة التعلّم والتطوّر. وبالتالي، الاعتراف بأنّ “الإنسان لفي خسر” لا يعني حتمية الفشل، بل يشير إلى المجال الكبير الذي ينبغي العمل عليه لتقليل الخسائر وبناء القدرات التي تمنع تفاقمها.


ثالثًا: الاستثناء العظيم – “إِلَّا”

قال تعالى: “إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ…”
هذه الـ”إلّا” تمثّل بارقة أمل ورسالة واضحة بأنّ الخسارة ليست قدرًا محتومًا إذا سلكنا الطرق الصحيحة. من منظور علم النفس الإيجابي، الأمل (Hope) والتفاؤل (Optimism) عنصران أساسيان في تجاوز الأزمات وبناء الدافعية للتغيير. والآية تقدّم أربع ركائز رئيسة تُخرِج الإنسان من دوامة الخسارة: الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر.

  1. أهمية الأمل في علم النفس الإيجابي
    الإنسان بلا أمل كالسفينة بلا دفة؛ لا تعرف وجهتها. وعندما تأتي كلمة “إلّا” في سياق سورة العصر، فإنها تفتح أمامنا أفق النجاة، وتُشعرنا بأنّ هناك مسارًا بديلًا عن مسار الخسارة. وهذه الفلسفة الإيجابية تمكّن الإنسان من إعادة صياغة نظرته للحياة، والتركيز على الإمكانيات بدلًا من العقبات، وعلى الحلول بدلًا من المشكلات.

  2. الاستثناء لا يشمل فئة ضئيلة وحسب
    من جماليات القرآن أنّه لم يقيّد الاستثناء بطائفة محددة أو زمنٍ معين، بل فتحه لجميع من يحقّقون هذه الشروط. هذا يعني أنّ الفرصة متاحة لكل فرد أو جماعة أو أمّة تتوافر فيها صفات النجاة. علم النفس الإيجابي بطبيعته لا يؤمن بأنّ النمط الإيجابي حكرٌ على أشخاص بعينهم، بل يطرح برامج وأساليب يمكن لأي شخص أن يستفيد منها في تطوير ذاته وتحسين حياته النفسية والاجتماعية.

  3. الحاجة إلى إرادة حقيقية للانعتاق
    مجرّد وجود “إلّا” لا يعني الانتقال التلقائي من دائرة الخسارة إلى دائرة الربح، بل يتطلب الأمر جهدًا واعيًا وتدريبًا وسعيًا في سبيل ترسيخ الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر. من منظور علم النفس الإيجابي، تغيير القناعات والسلوكيّات يتطلب عمومًا وقتًا ومرانًا (Practice) كي تنمو العادات الإيجابية وتقوى في مواجهة العادات السلبية المتوارثة.


رابعًا: ركائز النجاة الأربع في ضوء علم النفس الإيجابي

قال تعالى:
“إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلۡحَقِّ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلصَّبۡرِ (3)”
هذه هي الخطوات العملية الأربع التي تضمن الخروج من دائرة الخسارة وتحقيق النجاة. سنحاول الآن تسليط الضوء على كل ركن على حدة، من زاوية علم النفس الإيجابي وتأثيره على الفرد والمجتمع، وكيف يمكن لهذه الأركان أن تقود الإنسانية للخروج من الأزمات الكبرى مثل الظلم والحرب والعنف والفقر والجهل.


1. الإيمان بالله واليوم الآخر

من منظور إسلامي، الإيمان بالله واليوم الآخر أساس كل الأعمال. أمّا من منظور علم النفس الإيجابي، فقد لاحظ الباحثون وجود ارتباط بين الإيمان الروحي أو المعتقدات الدينية وبين مستوى أعلى من السعادة والرفاه النفسي. إذ يؤدي الإيمان إلى ترسيخ الشعور بالمعنى والغاية في الحياة.

  • المعنى في الحياة (Meaning in Life):
    من أبرز الموضوعات التي درَسها علم النفس الإيجابي هو دور المعنى في تعزيز الصحة النفسية. الإنسان عندما يؤمن بأنّ حياته ذات هدفٍ أسمى، وأنّه ليس مجرّد كائنٍ تائهٍ في الكون، تتعزّز لديه مشاعر الأمل والتفاؤل، وتقلُّ مشاعر القلق واليأس. وهذا الإيمان يوجّه طاقاته نحو البناء والإصلاح وتحقيق المنفعة العامة، ممّا يعود عليه بالرضى عن الذات ويعود على المجتمع بالنمو والاستقرار.

  • الموارد النفسية (Psychological Resources):
    الإيمان يُعطي الإنسان موارد نفسية داخليّة مثل الثقة (Confidence)، والطاقة الروحية (Spiritual Energy)، والأمان الوجودي (Existential Security). وهذه الموارد تقف سدًّا منيعًا أمام الضغوط والأحداث الصعبة التي تواجهه. وعندما نطبّق هذه الفكرة على مستوى المجتمعات، نجد أن المجتمعات المؤمنة بقيم إنسانية وإلهية عليا، تركّز في الغالب على قيم العدل والسلام والتسامح والتضامن، وهي قيم تسهم في تقليص دائرة الظلم والعنف والفقر والجهل.

  • التوازن بين الدنيا والآخرة:
    في علم النفس الإيجابي، هناك اهتمام كبير بتحقيق نوع من التوازن في الحياة (Work-Life Balance) أو (Life Balance) عمومًا. والإيمان بالله واليوم الآخر يعطي الإنسان بوصلة تذكّره بأنّ هذه الحياة ليست كلّ شيء، وبأن هناك حياة أخرى سيُجازى فيها الإنسان على أفعاله. هذا التذكير يُبعد الإنسان عن الأنانية والظلم والتشبّث المادّي، ويدفعه إلى تبنّي قيم العطاء والإحسان والبذل. وهذه المقاربة الإيمانية تساعد في تهذيب النزعات التخريبية داخل النفس البشرية التي تؤدّي في النهاية إلى الحروب والعنف وسائر الشرور.


2. العمل الصالح

بعد الإيمان تأتي الخطوة العملية: العمل الصالح. ومن منظور علم النفس الإيجابي، العمل الصالح يتقاطع مع كثير من المفاهيم الإنسانية الإيجابية، مثل العطاء (Altruism)، والتطوّع (Volunteering)، وخدمة المجتمع (Community Service)، وكل ما من شأنه أن يضيف قيمة إيجابية في حياة الآخرين.

  • الارتقاء بالرفاه النفسي عن طريق العطاء:
    تشير دراسات عدّة في علم النفس إلى أنّ الأفراد الذين ينخرطون في أعمال تطوّعية أو خيريّة يشعرون بدرجات أعلى من السعادة والرضى عن الحياة. ويرجع ذلك إلى أنّ تقديم المساعدة للآخرين يُشبع حاجات الإنسان النفسية مثل الانتماء والأهمية. وعندما يتمّ العمل الصالح ضمن إطارٍ قيميّ وإيماني، فإنّ الأثر قد يكون مضاعفًا.

  • تحقيق الذات (Self-Actualization):
    يذكر عالم النفس “أبراهام ماسلو” (Abraham Maslow) في هرمه الشهير أنّ أعلى مستوى يمكن أن يبلغه الإنسان هو تحقيق الذات، وهو مرحلة تتجسّد فيها ملكاته وقيمه العليا. والعمل الصالح أداة رئيسة لتحقيق الذات، لأنّ الإنسان يشعر بأنه يسهم في حل مشكلات جماعيّة أو فرديّة، فتتوثّق علاقته بمجتمعه وبيئته. ويصبح عنصرًا إيجابيًا بدلاً من كونه عالةً أو عنصر هدم.

  • تغيير مسار المجتمعات نحو الإيجابية:
    قد يظن البعض أن الظلم والفقر والجهل مشكلات معقّدة تتطلب حلولًا سياسية أو اقتصادية. وهذا صحيح جزئيًا، ولكنّ العمل الصالح على المستوى الفردي والجماعي يبقى عنصرًا لا يمكن الاستغناء عنه. إذ يفتح العمل الصالح المساحة للتضامن الاجتماعي، ويقوّي النسيج الأخلاقي للمجتمع، فيمنح الفرصة لقيام مشاريع تنموية أهلية ومبادرات تعتمد على تكامل الجهود، وهو ما يحتاجه عالم اليوم لتخفيف حدّة الانقسامات والأزمات.


3. التواصي بالحق

التواصي بالحق يعني أن يوصي الناس بعضهم بعضًا بقول الحقيقة والالتزام بها، وأن يكونوا صادقين مخلصين في أقوالهم وأفعالهم، وأن يقفوا مع العدل ضد الظلم. في علم النفس الإيجابي والاجتماعي، تُعد قيمة الصدق (Honesty) ركيزةً أساسية لبناء الثقة (Trust) بين الأفراد والمجتمعات، ومن دونها يتفكّك النسيج الاجتماعي ويشيع الخوف والريبة.

  • بناء الثقة الاجتماعية (Social Trust):
    في غياب ثقافة الصدق والتواصي بالحق، تنتشر الشكوك وتتفاقم النزاعات، فيتحوّل الإنسان أو الجماعة إلى كياناتٍ متنافرة لا تربطها قيمٌ مشتركة. في المقابل، عندما تسود ثقافة الحق والإنصاف، يتعزّز البناء الاجتماعي، ويرتفع مستوى التماسك والاستقرار. وهذا يُعدّ مدخلًا مهمًا لمعالجة مشكلات كبرى مثل الفقر والجهل؛ فالشعوب التي تتواصى بالحق تكون أكثر استعدادًا لمواجهة الانحراف والفساد المستشري الذي يُعدّ سببًا رئيسًا لانتشار الفقر والجهل والعنف.

  • تحقيق العدل والإنصاف (Justice & Fairness):
    من أبرز أسباب الحروب والظلم والعنف في العالم غياب قيمة العدل. والعدل يعني إنصاف كل ذي حقّ حقَّه. هذا يتطلب أن يكون هناك اتفاق على المبادئ الأساسية للحق، وأن يكون الناس قادرين على رفع أصواتهم من أجله. التواصي بالحق في المفهوم القرآني لا يقتصر على الوعظ الفردي البسيط، بل يشمل إعلاءً لمنظومة العدل في المؤسسات والسياسات. إذن التواصي بالحق يبدأ من الأفراد، ولكنّه يمتد إلى المستوى المؤسسي.

  • استنهاض الهمم نحو الإصلاح (Collective Efficacy):
    عندما تكون هناك حركة اجتماعية قائمة على التواصي بالحق، يشعر الفرد بأنه ليس وحده، وأنّ هناك آخرين يسيرون في الاتجاه نفسه. وهذا يعزّز الشعور بالفعالية الجماعية (Collective Efficacy)، وهي من المفاهيم التي درسها علم النفس الاجتماعي، حيث تزيد الثقة بقدرة المجتمع على إحداث التغيير الإيجابي. هذه الروح الجماعية تحدّ من النزاعات الداخلية، وتوجّه الطاقات نحو البناء وحلّ المشكلات المشتركة.


4. التواصي بالصبر

يرتبط الصبر بقدرة الإنسان على التحمّل والمثابرة في مواجهة التحديات. في علم النفس الإيجابي، يشير مفهوم الصبر إلى قدرة الإنسان على ضبط النفس (Self-Regulation) والاستمرار في المسار رغم العقبات، بالإضافة إلى مهارة المرونة النفسية (Resilience) التي سبق ذكرها.

  • الصبر كمحفّز على النمو (Growth Mindset):
    يركّز علم النفس الإيجابي على الفرق بين العقلية الثابتة (Fixed Mindset) والعقلية النامية (Growth Mindset). فالعقلية النامية تؤمن بأنّ القدرات يمكن تطويرها بالصبر والممارسة والإصرار. وعندما نتواصى بالصبر، فإننا نحثّ بعضنا على عدم الاستسلام للظروف، بل على الاستمرار في العمل والتعلّم مهما كانت التحديات.

  • كبح الغضب والعنف (Anger Management):
    أحد أسباب تفشّي العنف والحروب في العالم هو ضعف القدرة على ضبط المشاعر السلبية مثل الغضب والانتقام. التواصي بالصبر يعني تهذيب هذه المشاعر، وتوجيهها في سياقٍ بنّاء لا هدّام. ومع الوقت، يمكن للمجتمع أن يؤسّس لثقافة أكثر تسامحًا واحتواءً للاختلافات والخلافات.

  • اكتساب الخبرة والتعلّم من الأخطاء:
    الأشخاص والمجتمعات الصابرة لا تنهار عند أول فشل، بل تتعلّم من أخطائها وتعاود المحاولة. في مسيرة بناء الإنسان أو بناء المجتمع، هناك إخفاقات محتملة بل قد تكون حتمية. غياب الصبر يجعلنا نفقد الأمل عند أوّل كبوة، وننسحب من المعركة الإصلاحية. أما وجود الصبر فيعني الاستعداد لتحمّل التضحيات والأثمان المؤقتة من أجل تحقيق أهداف بعيدة المدى مثل القضاء على الجهل والفقر، وترسيخ العدل والسلام.


خامسًا: إسقاط المبادئ الأربعة على واقع الإنسانية الراهن

الإنسانية في مفترق طرق خطير؛ فالتطوّر العلمي والتكنولوجي فتح باب إمكانات هائلة لتحسين حياة البشر، لكنه أيضًا وفّر أدواتٍ للدمار والظلم بأشكال لم تكن متاحة من قبل. ومن ثمّ، فإنّ تطبيق العناصر الأربعة الواردة في سورة العصر بات ضرورة وجودية، وليس مجرد خيار من خيارات إصلاحية جزئية.

  1. الإيمان كبديل للعدمية والعبثية
    في ظل تزايد النزعات المادية والعدمية في كثير من المجتمعات، أصبح الإنسان أكثر قلقًا واكتئابًا، وصار تبرير الحروب أو الظلم أحيانًا يتمّ باسم المصالح الدنيوية. الإيمان، كما رأينا من منظور علم النفس الإيجابي، يمنح الإنسان المعنى والأمل والتوجّه الأخلاقي، وهو ما يخلق حاجزًا نفسيًا وأخلاقيًا أمام الاندفاع نحو تدمير الذات والآخرين.

  2. العمل الصالح كاستثمار اجتماعي وتنموي
    المجتمعات التي تشجّع على العمل الصالح في شتى المجالات، بدءًا من التطوّع والعمل الخيري، وصولًا إلى بناء مؤسساتٍ اجتماعية غير ربحية تهدف إلى خدمة الإنسان، هي المجتمعات التي تتجاوز حالات الظلم والفقر والجهل بأسرع الطرق. ذلك أنّ العمل الصالح يعبّئ الطاقات الداخلية للأفراد والجماعات في اتجاه إيجابي، وينمّي الشعور بالتكافل والتعاضد الاجتماعيين.

  3. التواصي بالحق كأساس للحُكم الرشيد والحوكمة العادلة
    في عالمٍ يتسم بالعولمة والتداخل الشديد، يحتاج البشر إلى آليات تحقّق العدالة وتضمن نزاهة المؤسّسات على المستويات المحلية والعالمية. التواصي بالحق يتطلّب وجود ثقافة عامة ترفض الفساد والتلاعب بالمصالح العامة، وتنبذ الكذب والتضليل، وتمنح الأولوية لتطبيق العدل في كل المجالات: الاقتصادية والسياسية والقضائية. وبدون هذه القيمة، فإنّنا سنبقى في دوامة الصراعات التي يحكمها منطق القوّة والمصلحة الأنانية.

  4. التواصي بالصبر كاستراتيجية للاستدامة والتقدّم البشري
    التخطيط لمستقبل الإنسانية ومعالجة مشكلاتها الكبرى – مثل التغيّر المناخي أو شحّ الموارد أو التهديدات البيولوجية – يتطلّب صبرًا جماعيًا والتزامًا طويل الأمد. إذ لا يمكن القضاء على هذه المشكلات بضربة واحدة أو في فترة وجيزة. التواصي بالصبر يعني حثّ المجتمعات والدول والمنظمات الدولية على المضي قُدمًا في تنفيذ خطط مستدامة، وعدم التراجع عند أوّل عقبة. كما أنّه يعني تبنّي ثقافة الحوار السلمي والصبر على الخلافات ريثما تُحلّ بالحجة والبرهان، بعيدًا عن اللجوء للسلاح والعنف.


سادسًا: البُعد التطبيقي من منظور علم النفس الإيجابي

يؤكّد علم النفس الإيجابي على الممارسة العملية والتدريب والتعلّم المستمر لاكتساب المهارات والقيم الإيجابية. فكيف يمكن تطبيق هذه العناصر الأربعة في حياتنا كأفراد وجماعات ودول؟

  1. تطوير برامج تعليمية وتربوية

    • غرس الإيمان والروحانية الإيجابية: يمكن للمناهج التعليمية أن تحتوي على مواد وورش عمل تزرع في نفوس الطلاب قيمة الإيمان بمعناه الواسع الذي يشمل الشعور بالمسؤولية الأخلاقية والاجتماعية.
    • تشجيع الطلاب على أعمال الخير والتطوّع: من خلال مبادرات ومشاريع عملية يشارك فيها الطلاب في بناء المجتمع ومساعدة الفئات الضعيفة.
    • تنمية مهارات التواصل الصادق والتعامل الراقي: عبر أنشطة جماعية ومسرحيات وحوارات تكسب الطلاب قيمة الصدق والتعاون.
    • تدريب الأطفال والشباب على الصبر والتحمّل: مثلًا عبر أنشطة رياضية أو مسابقات تحتاج إلى مثابرة طويلة لتحقيق الأهداف، ما يعمّق لديهم قيمة الصبر.
  2. تنظيم حملات توعوية في وسائل الإعلام

    • نشر ثقافة “التواصي بالحق”: بتسليط الضوء على قصص نجاح حقيقية لأفراد وجماعات وقفوا مع الحق ضد الفساد والظلم، وكيف أدّى موقفهم إلى نتائج إصلاحية بعيدة المدى.
    • الإعلاء من شأن المودّة والتراحم: الإعلام له دور هائل في تشكيل السلوك المجتمعي، وتقديم نماذج إيجابية للمحبة والتسامح يمكن أن يغيّر الصورة السائدة ويخلق وعيًا جمعيًا جديدًا.
  3. بناء مؤسسات مجتمع مدني قوية

    • مؤسسات تعزّز الإيمان والعمل الصالح: كالمنظمات الخيرية ودور الرعاية الاجتماعية وجمعيات التعليم المجاني ومحو الأمية والمبادرات الرامية إلى حماية البيئة. هذه المؤسسات توفّر منصّة عملية لتفريغ طاقات الشباب والعامة في أعمال بنّاءة.
    • الرقابة والشفافية: مؤسسات المجتمع المدني يمكن أن تضطلع بدور المراقب والمحاسب للسلطات التنفيذية، وبالتالي تكون بمثابة تجسيد عملي للتواصي بالحق.
    • غرس ثقافة الصبر في مسارات الإصلاح: من خلال تبنّي خطط بعيدة المدى وتحويلها إلى ثقافة مؤسسية تُدرك أنّ التغيير الحقيقي قد يستغرق سنوات من العمل الدؤوب.
  4. تبنّي سياسات وطنية ودولية عادلة

    • إصلاح القوانين: ضمان أن تكون القوانين مبنية على العدل والحق، بحيث لا يقع ظلمٌ على فئاتٍ أو أعراقٍ أو أديانٍ بعينها.
    • التركيز على التنمية البشرية: إعداد برامج حكومية تعطي الأولوية للتعليم والصحة ومكافحة الفقر، وهي من أعظم الأعمال الصالحة التي يمكن لدولةٍ ما أن تقوم بها لخدمة شعبها.
    • مأسسة الحوار وحلّ النزاعات سلميًا: من خلال إنشاء منصّات تفاوضية، ومؤسسات حلّ النزاعات، وتأهيل مختصين في الوساطة (Mediation) وبناء السلام (Peace Building)، لإدارة الصراعات بحكمة وصبر.

خاتمة وتأمّلات مستقبلية

إنّ سورة العصر تحوي في آياتها القليلة منهجًا متكاملًا للإنسانية كي تتجنّب هدر نفسها في دوامات الخسارة. فمن خلال الوعي بأنّ الوقت محدود، والخسارة متحققة إذا لم نتحرك، وبأنّ هناك سبيلًا للنجاة يستند إلى الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، يمكن للإنسانية أن ترسم لنفسها مسارًا بديلًا عن مسار الأزمات والحروب والظلم والفقر والجهل.

في ضوء علم النفس الإيجابي، هذه الركائز الأربع لا تمثّل مفاهيم مجرّدة، بل ترتبط ارتباطًا وثيقًا بأسس الرفاه النفسي والاجتماعي؛ فهي تغذّي مشاعر المعنى والأمل، وتشجّع على السلوكيات الإيجابية مثل العطاء والإحسان، وتبني الثقة والتعاون الجماعي، وتُعلّمنا إدارة الانفعالات والتحلّي بالصبر ومواصلة العمل الدؤوب رغم الصعوبات.

وإذا نظرنا نظرة تحليلية إلى واقع العالم اليوم، فسنجد الكثير من التحديات التي لن تُحلّ إلّا بانخراط واسع في هذه القيم القرآنية والإنسانية. إنّ السياسات المجرّدة من الأبعاد الأخلاقية والإنسانية قادت كثيرًا من الدول إلى الانهيارات الأخلاقية وارتكاب أفظع الجرائم بحق الشعوب والبيئة، ما يؤكّد أنّ التقدّم المادّي لا يضمن نجاة الإنسان ما لم يقترن بالتقوى والعمل الصالح والتواصي بالحق والصبر.

من جهة أخرى، يوفّر العلم الحديث – بما فيه علم النفس الإيجابي – الأدوات والآليات التي تساعد على ترسيخ هذه القيم في الأفراد والمجتمعات. على سبيل المثال، يمكن لبرامج تحسين الرفاه النفسي أن تدرّب الأفراد على أساليب تقوية الإيمان بالمعنى الواسع، وتعليمهم طرق العطاء والعمل الصالح، وتعزيز قدرتهم على الحوار البناء والتواصي بالحق، وتنمية صبرهم وتحملهم للمسؤولية الجماعية.

في النهاية، إنّ الإنسانية اليوم أمام خيارين واضحين: إمّا مواصلة السير في طريق الخسارة وما ينطوي عليه من كوارث محلية وعالمية، أو مراجعة ذاتها والعودة إلى القيم العظمى التي تغرس الإيمان وتُفعّل العمل الخيّر، وترفع صوت الحق وتحثّ على الصبر. ولا شكّ في أنّ تبنّي هذه القيم الكونية سيوفّر لأجيال المستقبل فرصةً أفضل في عيش عالمٍ أكثر سلمًا وإنصافًا وازدهارًا.

لقد أراد الله تعالى لنا من خلال سورة العصر أن نستيقظ من غفلتنا وندرك محدودية وقتنا، ونتبيّن حجم الخسارة المحدقة بنا إن واصلنا مسار الصراعات والتفريط بالقيم، وأنّ بإمكاننا إنقاذ أنفسنا وأجيالنا القادمة إنْ طبّقنا منظومةً متكاملةً من الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والصبر. وهذا بالضبط ما ينسجم مع رسالة علم النفس الإيجابي ومقاصده: بناء إنسانٍ مؤمنٍ بجدوى حياته، عاملٍ بالخير، ساعٍ للحق، صابرٍ في مواجهة الصعوبات، ومتفائلٍ بإمكانية صناعة عالم أفضل لنا جميعًا.

وفي ذلك تتجلّى دعوة الإسلام المستمرة إلى التفكّر والعمل والتعاون والتراحم، وهذه القيم نفسها جوهر العلم الذي يسعى لفهم النفس البشرية وتمكينها من تحقيق أقصى درجات السعادة والطمأنينة والقدرة على التغيير الإيجابي.

وهذا ما يجعل سورة العصر، رغم قصرها، بمثابة دستورٍ مصغّر للإنسان، سواء في جانبه الفردي النفسي أو في جانبه الاجتماعي الحضاري. إنها تذكير بأنّ الوقت يمضي، والخسارة تتحقق، إلّا إذا أردنا بصدق أن نخرج من دائرة التدهور إلى دائرة الأمل، عبر إيمانٍ يعيش في أعماقنا ويحرّكنا نحو الخير، وعملٍ صالحٍ يتجاوز حدود الذات ويعمّ نفعه على الجميع، وتواصٍ بالحق يجمعنا على كلمة العدل وينبذ كل أسباب الظلم والكراهية، وتواصٍ بالصبر يدفعنا لمواصلة السير حتى تتحقق الغايات العُليا التي أرادها الله تعالى للإنسان.

بهذا يكتمل المشهد؛ سورة العصر لا تقدّم مجرد توصيات دينية، بل تقدّم “برنامجًا” متكاملًا للنجاة والنماء، متوافقًا مع أفضل ما توصّل إليه العلم الحديث في حقل علم النفس الإيجابي حول معنى الحياة والسعادة والإيمان والعمل الجماعي والمرونة في مواجهة التحديات. إنّها دعوة جامعة شاملة يتعيّن علينا أخذها بجدية، عسى أن ننجو وتنجو معنا إنسانيتنا من الورطات الكبرى التي خلقناها بأيدينا، ونفتح الباب أمام مستقبلٍ أكثر رحمة وعدلًا ورخاءً.


كتبت بواسطة تشات جي بي تي

 

اترك تعليقاً