مزرعة تولستوي بقلم المهاتما غاندي – تجربة فريدة تستحق الدراسة والاهتمام

مزرعة تولستوي بقلم المهاتما غاندي – تجربة فريدة تستحق الدراسة والاهتمام

أنشئ المهاتما غاندي مزرعة في عام 1910، أطلق عليها اسم “مزرعة تولستوي”، وهي بمثابة تحية لليو تولستوي وكوسيلة عملية لممارسة المثل العليا المنصوص عليها في فلسفة تولستوي. عاش أفراد هذه الجماعة والمعروفة باسم ساتياغراها (المقاومات غير العنيفة) على مساحة أرض تقدّر بـ 1100 فدان، وجعلوها مزرعة مكتفية ذاتياً. كرّسوا أجسادهم للعمل اليدوي الشاق المنضبط، وكرّسوا عقولهم لمُثل الحقيقة والحب وعدم التملّك ونبذ العنف والعفة. كان أتباع ساتياغراها يعتنقون العديد من العقائد الدينية المختلفة.

بعد أن عاد غاندي إلى الهند، بدأ بتأسيس وشرح حركة السوادشي (مبدأ صناعة البضائع الوطنية بموارد وأيدي وطنية)، والتي كانت قد تأسست في تجربة مزرعة تولستوي. وفي الفترة ما بين عامي (1919 و 1948)، ظلّ غاندي يكتب عن جمال تجربة المجتمع القروي تلك وأصبحت “عجلة الغزل” رمزاً لحركة السوادشي الشعبية في جميع أنحاء الهند.

مزرعة تولستوي (آ) بقلم المهاتما غاندي

تنمو في المزرعة أشجار البرتقال والمشمش والخوخ وتعطي ثمارها بوفرة لدرجة أن مجتمع الساتياغراها كانوا يأكلون منها لحدّ الشبع ومع ذلك يتبقى منها فائض كبير ووفرة. وقد كان نبع الماء يبعد عن مقرّنا حوالي 500 ياردة فقط وبالإمكان جلب الماء بواسطة دلوين يوضعان على قطبي عصاً تحملُ على الكتف.

لقد قررنا جميعاً وأصريّنا على أن لا تستخدم أي عمالة أو خدم، ليس فقط من أجل القيام بالأعمال المنزلية وإنّما إلى حدّ كبير في أعمال البناء والزراعة أيضاً. كل الأعمال الأخرى من الطبخ إلى الكنس والتنظيف كانت تتم بأيدينا. أما من ناحية سكن العائلات فقد قررنا جميعاً وعقدنا العزم منذ البداية أن يكون سكن الرجال منفصلاً تماماً عن سكن النساء في مجمّعين سكنيين منفصلين. لذلك تمّ جعل البيوت في مبنيين منفصلين يبعدان عن بعضهما الاخر مسافة معينة. وكانت المساكن كافية لتوفير الإقامة لعشرة نسوة وستين رجلاً. ثم قمنا أيضاً ببناء منزل لإقامة السيد كالينباخ، وبجانبه بنيت المدرسة، وكذلك تم بناء ورشة عمل النجارة وصناعة الأحذية، الخ…

كان سكان هذه المزرعة من ولاية غوجارات ومن تاميلناد وأندرا براديش ومن شمال الهند، وكانت تضمّ فيما بينها هندوساً ومسلمين وفرساً ومسيحيين. كان المجتمع هناك يتألف من حوالي أربعين شخصاً من الشبان الفتيان، واثنان أو ثلاثة شيوخ، وخمس نساء ومن عشرين إلى ثلاثين طفلا من بينهم أربع أو خمس فتيات.

كان المسيحي وغيره من النساء من أكلة اللحوم. وفكرت كثيراً مع السيد كالينباخ ورغبنا في استبعاد اللحوم من المزرعة. ولكن كيف يمكن أن نطلب من الناس الذين ليس لديهم أي شكّ في هذا الشأن، و اعتادوا على تناول اللحوم منذ الطفولة، والذي كانوا يقصدون المكان هنا في أيام المحنة والشدائد، كيف يمكن أن نطلب منهم التخلي عن اللحوم ولو مؤقتا؟ وإذا ما أعطوا اللحوم، أليس من شأن هذا الأمر أن يضخّم تكلفة المعيشة لدينا؟ هل يجب أن نعطي لحم البقر أيضاً لأولئك الذين اعتادوا على تناول اللحم البقري؟ كم هو عدد المطابخ المنفصلة التي يجب علينا تجهيزها في هذه الحالة؟ ما هو واجبي في هذه النقطة بالتحديد؟ وبما أنّه كان لي دور فعّال في تقديم مساعدة عملية لهذه الأُسر، فقد منحت دعمي لتناول اللحوم يما فيها لحوم البقر. لو أنني أصدرت حكماً أنّ اللحوم لا ينبغي لها أن تؤكل و استبعدنا مساعدة الأشخاص أكلة اللحوم، فهذا يعني أنّ ساتياغراها ستواصل كفاحها من خلال النباتيين فقط، وهذا تسخيف للنضال حيث أنّ هذه الحركة تمثّل جميع الطبقات من الهنود (ليس النباتيون فقط). لم يأخذ الوقت مني طويلاً لأرى الأمور بوضوح ولأتصور واجبي وما هو ضروري في هذه الظروف. فإذا ما طلب المسيحيون والمسلمون اللحوم فيجب أن تكون متوفرة لهم بما فيها لحم البقر أيضاً. إن رفض قبولهم في المزرعة كان أمراً غير وارد على الإطلاق.

ولكن أينما وجِدَ الحب، فستجد الله هناك أيضاً. بالفعل، فقد منحني أصدقائي المسلمون الأذن كي يكون المطبخ نباتياً بشكل كامل. وكان علي الآن أن أتحدّث في هذا الشأن مع أخواتنا المسيحيات واللواتي كان أزواجهن أو أبنائهن في السجن. كنت غالبا على اتصال حميم مع أصدقاء المسيحيين الذين هم الآن في السجن وكانوا يتفهمون ويوافقون في مثل هذه المناسبات على تناول طعام نباتي بالكامل. ولكن هذه المرة الأولى التي أتيح لي التعامل عن قرب مع عائلاتهم في غيابهم. وقد شرحت للأخوات صعوبة تمويل وبناء المرافق في السكن وكذلك المشاعر عميقة الجذور الخاصة بي في هذه المسألة. ولكن في الوقت نفسه أكدت لهنّ أنّه سيتم توفير اللحوم بما فيها لحم البقر إذا ما أرادوا ورغبوا بذلك. وكان الأخوات في غاية اللطف والكرم ووافقن على نظام غذائي ليس فيه أي لحوم، وتمّ وضع قسم الطبخ في عهدتهن، وقمت أنا بمساعدتهن سواء لوحدي أو مع رجل آخر. كان وجودي بمثابة حكم على مشاحناتهن الصغيرة. أمّا الطعام فكان من أبسط ما يكون. تم تحديد عدد الوجبات وأوقاتها المحددة. وتمّ تجهيز مطبخ واحد فقط، حيث الجميع يصطف لتناول العشاء في نسق واحد. وبعد أن ينتهي من الطعام ينظف كل شخص طبقه وغيره من الأمور الخاصة به. أمّا الأواني والقدور المشتركة فكانت تنظّف من قبل أطراف مختلفة بشكل دوري. ولا بد لي من القول بأن ساتياغراها قد استمرت في مزرعة تولستوي لفترة طويلة من الزمن، ولم يطلب أيّ من النساء أو الرجال لحوماً على الإطلاق ولا حتى طلبوا الشراب أو التدخين أو غيرها، والتي بالطبع كانت محظورة تماماً.

وكما ذكرت من قبل، أردنا الاعتماد على الذات قدر الإمكان حتى في عملية تشييد المباني. وقد ساعدنا المهندس السيد كالينباخ بخبرته في هذا المجال، وحصل على عقد من ماسون الأوروبية. وقد تطوع نجار من منطقة غوجاراتي و نارينداس دامانيا، لتقديم خدماتهما مجاناً وأحضرا معهما نجارين آخرين للعمل أيضاً بأجور منخفضة. وفيما يتعلق بالعمالة غير الماهرة، فقد حقق بعض سكان المزرعة من الذين يتمتعون بمرونة وقوة، الأعاجيب مثل ساتياغراها باسم “فيهاري” الذي أنجز لوحده نصف أعمال النجارة. وكان “ثامبي نايدو” مثل الأسد، ومسؤولاً عن الصرف الصحي والتسويق ولذلك كان عليه السفر مراراً إلى جوهانسبرغ.

كان أحد الذين سكنوا المزرعة “براجي خاندوبهاي ديساي” الذي لم يسبق له عيش حياة شاقة وغير مريحة طوال حياته، وقد تعرّض هنا إلى البرد القارس والشمس الحارقة والأمطار الغزيرة. في البداية عشنا في الخيام لمدة شهرين تقريباً حيث كانت المباني قيد الإنشاء. وكانت الهياكل كلها من صاج الحديد المعرج (التوتيا) وبالتالي لم تستغرق عملية رفعه وقتاً طويلاً. الأخشاب أيضاً كانت قد جهّزت في جميع الأحجام المطلوبة. كل ما كان علينا القيام به هو تقطيعها حسب القياس. لم يكن هناك الكثير من الأبواب والنوافذ التي يجب أن تجهّز. ولذلك استطعنا بناء عدد كبير من المباني في هذه الفترة الزمنية القصيرة. ولكن أعمال البناء كانت شاقة وثقيلة على بدن “براجي” حيث أنّ الأعمال في المزرعة بالتأكيد كانت أصعب مما كانت عليه في السجن. في الواقع تعرّض للإغماء في أحد الأيام بسبب التعب والحرارة، ورغم ذلك لم يستسلم الرجل. تأقلم جسده وتدرب بالكامل هنا بسبب أعمال المزرعة، وفي النهاية أصبح عاملاً متمرساً مثل أفضل واحد فينا. بعد ذلك كان هناك “جوزيب روبين”، وهو محام يخلو من تكبر المحامين، لكنه لا يستطيع القيام بالأعمال الشاقة للغاية فقد كان شاقاً عليه إنزال الحمولة من سكة القطار ووضعها على العربة، لكنّه فعل ذلك بأفضل ما كان يستطيع. أصبح الضعيف قوياً في مزرعة تولستوي وأثبت العمل أنّه قادر على شحذ وتنشيط الجميع.

كان على كل واحد منّا أن يذهب إلى جوهانسبرج سواء لقضاء عمل هناك أو غيرها. وكان الأطفال يحبّون الذهاب إلى هناك لرغبتهم في الترفيه والمتعة. وقد أتيح لي الذهاب إلى هناك عدة مرات لإنجاز بعض الأعمال التجارية. لذا قمنا بوضع قاعدة التزمنا بها جميعاً وهي: يستطيع المرء منّا السفر إلى هناك باستخدام قطار سكة الحديد فقط إذا كان لديه عمل عام متعلق بأمور المزرعة، وعليه استخدام الدرجة الثالثة، أمّا إذا كان السفر للمتعة والترفيه فيجب عليه إذاً أن يذهب سيراً على الأقدام وأن يتزود بمؤونة من عمل المزرعة. يجب عليه ألا يُنفق أي نقود على طعامه في المدينة. لو أنّنا لم نفعل ذلك ونلتزم بهذه القواعد، لكانت الأموال التي نقوم بتوفيرها في هذه المكان الريفي قد أُهدرت على أجور مواصلات سكة الحديد وعلى النزهات في المدينة. وكانت تدابير التموين والغذاء التي نفذناها من أبسط ما يكون: فالخبز يُصنّعُ في المزرعة من نخالة دقيق القمح المطحون أيضاً في المزرعة، والذي لم تتم إزالة النخالة عنه، أما زبدة الفول السوداني، فكانت تُطحنُ وتعدُّ أيضاً في المزرعة، والبرتقال كان متوفراً بكثرة في المزرعة. كنا قد اشترينا مطحنة يدوية من الحديد لطحن القمح. أمّا زبدة الفول السوداني فكنّا نحمّص الفول السوداني أولاً ثم نقوم بطحنه، فكان أرخص بأربع مرات من الزبدة العادية التي في السوق. أما بالنسبة للبرتقال، فقد كان لدينا الكثير من أشجار البرتقال في المزرعة. أمّا حليب البقر فبالكاد استخدمناه هناك وعموما كنّا نكتفي بالحليب المكثّف.

بالعودة إلى الرحلات، أيّ شخص يرغب في الذهاب إلى جوهانسبرغ، كان يذهب إلى هناك سيراً على الأقدام مرة واحدة أو مرتين في الأسبوع، ويعود في نفس اليوم، كما سبق أن رويت، حيث أنّ مسافة الرحلة تبعد حوالي 21 كيلومتراً ذهاباً وإياباً. و بالتزامنا بهذه القاعدة وحدها استطعنا توفير المئات من الروبيات من خلال الذهاب سيراً على الأقدام، وقد استفاد الجميع من السفر على الأقدام وطوّرها البعض لتصبح هواية وعادة مكتسبة له. كان على الشخص المسافر أن يستيقظ في الثانية صباحاً ويبدأ رحلته في الثانية والنصف صباحاً، وكان يصل إلى جوهانسبرغ في 6 إلى 7 ساعات. أمّا الرقم القياسي للحد الأدنى من الوقت الذي تستغرقه الرحلة فكان 4 ساعات 18 دقيقة.

يجب ألاّ يتصوّر القارئ أنّ هذا الالتزام والانضباط بالقوانين من قبل سكان المزرعة كان شاقاً على الإطلاق، فمن ناحية أخرى كانوا يتقبّلونه بكل مرونة ومرح. فمن المستحيل أن يبقى ساكن واحد في المزرعة لو أنّ الأمور كانت تنفذّ بالإكراه. وقد استمتع الشبان الصغار بالعمل في المزرعة والمهمات التي كانوا يذهبون فيها إلى المدينة. إنّ طبيعة الشباب تجعل من الصعب علينا منعهم من المرح وعمل المقالب المرحة أثناء انشغالهم في العمل. ولم تكن الأعمال التي أوكلت إليهم فوق طاقتهم بل إنّهم تقبلوها بكل طيب خاطر ونفذوها بمرح وفكاهة، ومع ذلك فقد قاموا بتنفيذ هذه الأعمال على أتمّ وجه، سواء من حيث الكمية أو النوعية.

أمّا فيما يختص بإجراءات النظافة والصحة لدينا، فإنّك لن تجد أيّ أوساخ أو فضلات مرمية في أيّ مكان في المزرعة، على الرغم من وجود عدد كبير من السكان فيها. ويتم دفن القمامة في خنادق حفرت خصيصاً لهذا الغرض. ولا يُسمح أبداً بإلقاء الماء على الطرق. أمّا مياه الصرف الصحي فكانت تُجمّع في الدلاء وتستخدم لري الأشجار، واستخدمت رواسب الطعام والمواد الغذائية وبقايا الخضروات كسماد طبيعي. وقد تمّ عمل حفرة عميقة بمساحة مناسبة بالقرب من المنزل لتجميع السماد، وكانت تُغطّى بالكامل من تراب الأرض المحفورة وبالتالي لم ينتج عنها أيّ رائحة ولم يكن يحوم حولها أيّ ذباب، لدرجة أنّه من غير الممكن لأحد أن يتصور أنّ السماد قد دُفِنَ هناك. كنا بالتالي بمنأىً عن أيّ مصدر للإزعاج، بل قمنا بتحويل مصدر الإزعاج المحتمل من الفضلات إلى سماد لا يقدّر بثمن لفائدة المزرعة. وقد ساهم تعاملنا الصحيح مع الفضلات والسماد في حصولنا على بعض الروبيات وتحصين أنفسنا من الأمراض التي كانت ستنتشر بسبب القمامة. فلو تركنا الأمر لعاداتنا السيئة، لكنّا أفسدنا ضفاف الأنهار المقدسة لدينا وجعلناها أرضاً خصبة ليرتع فيها الذباب، والنتيجة سيمتلأ المكان بالذباب وسيطير ويحطّ على الأوساخ التي نتجت بسبب إهمالنا ثمّ سيحطّ على أجسادنا النظيفة التي اغتسلت للتو، ليصيبنا بالنجاسة والأمراض. مجرفة صغيرة يمكن أن تخلصنا من مصدر إزعاج كبير. ترك البراز أو تنظيف الأنف أو البصق على الطريق هو خطيئة بحق الله وبحق الإنسانية، ويكشف عن افتقار بالإحساس بالآخرين وأخذهم بعين الاعتبار. الرجل الذي لا يغطي مخلفاته يستحق عقوبة ثقيلة حتى لو كان يعيش في الغابات.

جعل المزرعة خلية صناعية منتجة، سيؤدي إلى توفر بعض المال، وفي النهاية ستصبح الأسر مكتفية ذاتياً. لو حققنا هذا الهدف، لأمكننا أن نخوض المعركة مع حكومة إقليم الترانسفال (العنصرية) لفترة غير محددة. كان علينا أن تنفق بعض المال على الأحذية. استخدام الأحذية في المناخ الحار هو ضار، ويتم امتصاص كل العرق من القدمين الأمر الذي يجعلهما رخوتين. لا حاجة إلى الجوارب في الترانسفال كما هو الحال في الهند، ولكن ظننا أن الأقدام يجب أن تكون محمية ضد الأشواك والأحجار وما شابه ذلك. لذا قررنا أن نصنع الصنادل. في مارينا هيلز، قرب بين تاون يوجد دير للرهبان الكاثوليك الألمان، هناك توجد صناعات من هذا النوع. ذهب السيد كالانباخ إلى هناك وتعلم صناعة الصنادل. وبعد عودته علمني وأنا بدوري علمت بقية العمال. وهكذا تعلم عدد من الشباب كيف يصنعون الصنادل، وبدأنا ببيعها أيضاً للأصدقاء. علي أن أقول بأن العديد من تلاميذي تفوقوا علي بسهولة في هذا الفن. تم إدخال حرفة أخرى وهي حرفة النجارة. هكذا وقد أسسنا ما يشبه القرية فقد احتجنا إلى مختلف الأشياء واللوازم الكبيرة والصغيرة من الكراسي إلى الصناديق، وقد صنعناها كلها بأنفسنا. النجارون الذين تم اقتراحهم ساعدونا عدة أشهر. السيد كالانباخ كان رئيس قسم النجارة، وكان يكشف في لحظة عن دليل جديد على إتقانه ودقته.

المدرسة كانت أمراً لا غنى عنه للناشئين والأطفال. كان هذا أصعب المهام ولم نتمكن من تحقيق نجاح كامل في هذا الأمر حتى النهاية. حملنا أنا والسيد كلانباخ إلى حد كبير مسؤولية التعليم. المدرسة كانت تفتح فقط بعد الظهر، في وقت يكون فيه كلانا قد أنهك بأعمال الصباح، وكذلك التلاميذ. لذلك كثيراً ما كان النعاس يغلب المعلمين وكذلك الطلاب. كنا نرش الماء على العيون، وكنا نلاعب الأولاد ونحاول أن ننشطهم وننشط أنفسنا، لكن أحياناً بلا جدوى. الأجساد كانت تطالب بالراحة بشكل قاطع وترفض التعاون. ولكن هذا لم يكن سوى واحد من أبسط المصاعب الكثيرة التي واجهناها.

لقد استمرت الدروس بالرغم من الغفوة والنعاس. ماذا كان يمكننا أن ندرس أولاداً يتكلمون ثلاث لغات، الغوجاراتية أم التاميل أم التيلوجو، وكيف؟ كنت حريصاً على جعل اللغة العامية وسيلة للتعليم. كنت أعرف القليل من لغة التاميل، ولكن لا شيء من التيلوجو. ماذا يمكن لمعلم واحد أن يفعل في مثل هذه الظروف؟ حاولت الاستفادة من بعض الشباب كمعلمين، لكن التجربة لم تكن ناجحة بقدر كاف. طلبنا مرة أخرى خدمات براغجي بالتأكيد. بعض الشبان كانوا كسولين ومزعجين جداً، وكانوا دائماً على علاقة سيئة مع كتبهم. لا يمكن للمعلم أن يتوقع إحراز تقدم كبير مع تلاميذ كهؤلاء. كما أننا لم نكن منتظمين جداً في دروسنا. ظروف العمل أحياناً كانت تضطر السيد كالانباخ وكذلك أنا للذهاب إلى جوهانسبرغ. التعليم الديني وضع مشكلة صعبة أخرى. أردت أن يقرأ المسلمون القرآن، و الزرادشتيون الأبستاق. وكان هناك طفل واحد من طائفة خوجة، وضع أبوه على عاتقي مهمة تعليمه مقاطع قصيرة من تراثه. جمعت كتباً عن الإسلام والزرادشتية. ودونت التعاليم الأساسية للهندوسية حسب تصوري؛ ولا أتذكر الآن إن كانت لاتزال مع الأولاد عندي أم مع المزارعين في مزرعة تولستوي. لو كان ذلك المستند في حوزتي الآن لكنت أدرجته ليكون إشارة إلى مسيرتي الروحية. لكنني رميت وأحرقت أشياء كثيرة كهذه في حياتي. لقد أتلفت أوراقاً كثيرة كتلك لأنني شعرت بأن ليس من الضروري الاحتفاظ بها أو ربما حدث ذلك بعد أن توسع مجال نشاطي. لست متأسفاً حيال ذلك، فالاحتفاظ بها كاملة كان سيثقل كاهلي ويكون مكلفاً جداً بالنسبة لي. كان سيجبرني على الاحتفاظ بخزانات وصناديق ستبدو كالقذى في عين شخص نذر نفسه للفقر. لكن هذه التجربة التعليمية لم تكن عقيمة. تم إنقاذ الأولاد من عدوى التعصب، فتعلموا أن ينظروا إلى أديان وعادات الآخرين بمحبة وقلب كبير. لقد تعلموا كيف يعيشون معاً كالأخوة. تشربوا دروس مساعدة الآخرين، واللباقة والعمل. (هذا من القليل الذي عرفته عن النشاطات اللاحقة لبعض أولاد مزرعة تولستوي)، أنا على ثقة بأن التعليم الذي تلقوه هناك لم يذهب سدى، وحتى إن لم يكن مثالاً، فقد كان تجربة عميقة ودية، ومن بين الذكريات الأجمل في مزرعة تولستوي. إن ذكريات التعليم لا تقل روعة عن بقية الذكريات، إلا أنه من الأفضل تخصيص فصل آخر لتلك الذكريات.


مزرعة تولستوي (ب) بقلم م. ك. غاندي

في هذا الفصل سأذكر بشكل متسلسل بعضاً من ذكريات مزرعة تولستوي وهي مفككة نوعا ما، وهو ما يستدعي تحلي القارئ بشيء من المراعاة. مدرس لم يمتهن التدريس قط، كان عليه أن يدرس في صفٍ غير متجانس على الإطلاق، يحتوي على أطفال من كل الأعمار وكلا الجنسين، من الأولاد والبنات من 7 سنوات إلى شباب في العشرين وبنات من 12 أو 13 سنة. بعض الأولاد كانوا مشاكسين وسيئي التصرف.

ما الذي يمكنني أن أدرِّسه لمجموعة سيئة التنوع إلى هذا الحد؟ كيف يمكنني أن أكون كل شيء لكل التلاميذ؟ ومرة أخرى، بأي لغة يجب علي أن أتكلم إليهم؟ الأولاد التاميل والتيلجو يعرفون لغتهم الأم أو الإنجليزية أو الهولندية. لم يكن بإمكاني التحدث إليهم إلا بالإنكليزية. قسمت الصف إلى قسمين ـــ قسم غوجارات والباقي قسم إنجليزي. وكجزء من التعليم تمكنت من أن أقص عليهم أو أقرأ لهم بعض القصص المثيرة. كما اقترحت أن أوفر تواصلاً متبادلاً وأن أساعدهم لتنمية روح الصداقة والخدمة فيما بينهم. كما قمنا بتقديم معارف عامة من التاريخ والجغرافية وشيء من الحساب. تم تقديم دروس في الكتابة، وكذلك بعض أجزاء من صلواتنا، ولذلك حاولت أن أجذب الأولاد من التاميل أيضاً.

التقى الفتيان والفتيات بحرية. تجربتي من التعليم المختلط ومزرعة تولستوي كانت الأكثر إفزاعاً. لا أجرؤ اليوم على السماح وتدريب الأولاد على التمتع بالحرية التي منحتها لمدرسة مزرعة تولستوي. كثيراً ما شعرت بأن ذهني آنذاك كان أكثر براءة مما هو عليه الآن، ولعل ذلك مرده إلى جهلي. منذ ذلك الحين كانت لي تجارب مريرة، وقد أحرقت في بعض الأحيان أصابعي بشدة. بعض الأشخاص الذين ظننت أنهم بريؤون تماماً باتوا فاسدين. لست نادماً على القيام بالتجربة. ضميري يشهد بأنني لم أرتكب أي ضرر. ولكن، كما ينفخ الطفل الذي حرق نفسه بالحليب الساخن على اللبن، فإن موقفي الحالي يتسم بالحرص الزائد.

لا يستطيع المرء أن يقترض الإيمان أو شجاعة من الآخرين. توضع علامة على المتشكك لتدميره، حسب تعاليم الغيتا. كان إيماني وشجاعتي في أعلى مستوياتهما أثناء تواجدي في مزرعة تولستوي. ودعوت الله أن يسمح لي بالحفاظ على ذلك المستوى لكن دعائي لم يستجب حتى الآن، فعدد من يتوسلون للحصول على ذلك أمام العرش الأبيض العظيم كبير جداً. عزاؤنا الوحيد هو أن لدى الله من السنوات بقدر ما هناك من متوسلين. لذلك فأنا أستند إلى إيمان كامل به وأعلم بأن دعائي سيقبل عندما أجعل نفسي لائقة لمثل تلك النعمة.

كانت هذه تجربتي. لقد أرسلت أولاداً معروفين بأنهم مشاكسون وفتيات صغيرات بريئات للاستحمام في نفس المكان وفي نفس الوقت. لقد شرحت بشكل كامل واجب ضبط النفس للأولاد، وكانوا جميعاً على معرفة بتعاليم ساتياغراها التي أؤمن بها. لقد عرفت، وكذلك عرف الأولاد، بأنني أحبهم كما تحب الأم. يمكن للقارئ أن يتذكر النبع الذي يقع على مسافة من المطبخ. هل كان من الغباء أن يترك الأولاد للالتقاء والاستحمام هناك متوقعاً بأنهم سيظلون على براءتهم؟ لقد لحقت عيناي الفتيات على الدوام كما تلحق عينا الأم ابنتها. لقد تم ضبط الوقت الذي يذهب فيه الصبيان والبنات معاً للاستحمام. كان هناك عامل سلامة باعتبار أنهم يذهبون كمجموعة واحدة. تم تجنب العزلة دائماً. وعادة ما أكون في النبع بنفس الوقت.

جميعنا كنا ننام على شرفة مفتوحة. الفتيان والفتيات يستلقون من حولي. كان هناك بالكاد مسافة ثلاثة أقدام بين أي فراشين. تم ترتيب الأسرة بشيء من الانتباه والرعاية، لكن أي قدر من هذا التدبير سيكون بلا جدوى أمام أي أفكار شريرة. أنا أعتقد الآن بأن الله وحده هو من حمى عفة هؤلاء الأولاد والبنات. لقد أجريت التجربة معتقداً بأن الأولاد والبنات يمكن أن يعيشوا هكذا معاً بلا أذى، والآباء بفضل ثقتهم غير المحدودة بي سمحوا لي بالقيام بذلك. في أحد الأيام قام أحد الأولاد بالاستهزاء من بنتين، وقامت البنتان أو ولد آخر بنقل الخبر لي. لقد ارتعشت لدى سماع الخبر. قمت ببعض الاستفسارات ووجدت أن الخبر صحيح.

لقد عبرت عن احتجاجي أمام الفتيان، لكن ذلك لم يكن كافياً. تمنيت لو أن على الفتاتين علامة من نوع ما تحذر جميع الشباب فلا تمتد أي عين شريرة إليهما، وتكون درساً لكل بنت بأن ما من أحد يجرؤ على المساس بنقائهن. لم يستطع “رافانا” العاشق حتى أن يمس “سيتا” عن سوء قصد فيما “راما” كان على بعد آلاف الأميال. ما العلامة التي يجب أن تحملها الفتيات لتمنحهن إحساساً بالأمان وتطهر في الوقت نفسه العيون الآثمة؟ أبقاني هذا السؤال مستيقظاً طوال الليل. في الصباح اقترحت بلطف على الفتيات بأن يسمحن لي بقص شعرهن الطويل الجميل. في المزرعة يقوم بعضنا بحلق وقص شعر بعضنا الآخر ولذلك توجد لدينا مقصات وآلات حلاقة.

في البداية، لم توافق الفتيات على اقتراحي. وكنت قد شرحت الوضع للنساء الأكبر سناً واللواتي لم يطقن التفكير باقتراحي ولكنهن تفهمن دافعي، وأخيراً قدمن دعمهن لي. كانت الفتاتان نبيلتين. إحداهما توفيت لاحقاً للأسف، كانت فتاة مشرقة وذكية. الأخرى ما تزال حية وتعيش حالياً في منزل تملكه. في النهاية رضخت الفتاتان، وذات اليد التي تروي هذه الحادثة بالذات هي التي قصت شعرهما. بعدئذ حلّلت وشرحت ما فعلته أمام طلابي، وجاءت النتائج ممتازة. لم أسمع عن سخريات بعد ذلك. ولم تخسر الفتاتان شيئاً على أي حال. ويعلم الله كم اكتسبوا. أتمنى أن يحتفظ الشباب بذكرى هذه الحادثة ويُبعدوا أعينهم عن الخطيئة. إن تجارباً كهذه التي سجلتها ليست مخصصة للتقليد. أي أستاذ يقلدها سيعرض نفسه لخطورة كبيرة.

سجلت هذه الملاحظات هنا فقط لأظهر الحدود التي يمكن للمرء أن يصل إليها في ظروف معينة للتأكيد على نقاء الصراع في سبيل الساتياغراها. هذا النقاء بالذات كان ضمان النصر. يجب أن يكون المعلم أبا وأماً لتلاميذه قبل إطلاق تجربة كهذه، وأن يكون مستعداً لكل الاحتمالات مهما كانت، ولا يستطيع تطبيقها إلا الأكثر اجتهاداً.
لم يخل تصرفي هذا من تأثير على كامل حياة سكان المزرعة. وحيث أننا اعتزمنا تخفيض النفقات إلى أدنى حد، قمنا بتغيير ملابسنا أيضاً. ففي المدن يرتدي الرجال ثياباً أوروبية المظهر بمن فيهم أتباع الساتياغراها. لم نكن بحاجة إلى ملابس كتلك في المزرعة حيث أصبحنا جميعنا عمالاً وارتدينا ثياب العمل ولكن بتصميم أوروبي، أي ارتدى الرجال بناطيل وقمصان رخيصة يمكن تحضيرها من قماش أزرق خشن. معظم السيدات كن قادرات على الخياطة وتولين العمل في قسم الخياطة.
أما بالنسبة للطعام فقد كان لدينا الأرز والدال والخضار والروتي مع إضافة العصيدة أحياناً. كانت تقدم جميعها في صحن واحد لا يشبه الصحون الاعتيادية، ولكنه أقرب للأوعية التي تقدم للسجناء. صنعنا لأنفسنا معالق خشبية في المزرعة، وكنا نقدم ثلاث وجبات في اليوم. في السادسة صباحا كان يقدم لنا الخبز مع قهوة منزلية، وفي الساعة الحادية عشرة أرز مع دال وخضار، وعند الخامسة والنصف مساء قمح مع الحليب، أو خبز مع القهوة. ثم نقوم بأداء الصلوات بعد وجبة العشاء في السابعة أو السابعة والنصف.

كنا في وقت الصلاة نغني مقاطع “بهاجان” وفي بعض الأحيان كنا نقرأ من “رامايانا” أو كتب عن الإسلام، كانت البهاجانات باللغة الإنكليزية والهندية والغوجاراتي. كنا أحياناً نقرأ بهجاناً واحداً باللغات الثلاث وبلغة واحدة أحياناً أخرى. كنا نفترق عند الساعة التاسعة، عدد من سكان المزرعة كانوا يرقبون “نهار إكاداشي” للصيام. وقد انضم إلينا السير بي. كي. كتوال وكان ذا خبرة في الصيام، فتابع بعضنا معه للحفاظ على شهور الشاتورماس، وحل شهر رمضان في هذه الأثناء. كان هناك شباب مسلمون بيننا، وشعرنا أننا يجب أن نشجعهم للحفاظ على الصيام. رتبنا لهم ليحصلوا على وجبات الطعام في المساء، وكذلك في الصباح الباكر. العصيدة، وأشياء أخرى، كانت تعد لهم في المساء. لم يكن هناك لحوم، بطبيعة الحال، ولم يسأل عنها أحد. ولكي لا يكون أصدقائنا المسلمين لوحدهم، حصل الباقون أيضاً على وجبة واحدة يومياً في المساء. اتفقنا على إنهاء وجبة المساء قبل غروب الشمس. لذلك كان الفرق الوحيد أن الآخرين يكونون قد أنهوا عشائهم عندما يبدأ الأولاد المسلمون بتناول طعامهم.

وكان هؤلاء الأولاد في غاية التهذيب ولم يعرّضوا أحداً للمزيد من المشاكل بالرغم من أنهم كانوا ملتزمين بالصيام، والحقيقة أن دعم غير المسلمين لرفاقهم المسلمين في مسألة الصيام ترك انطباعاً جيداً لدى الجميع. أنا لا أذكر حصول أي مشاجرة في أي وقت، ناهيك عن أي انقسام بين الأولاد الهندوس والمسلمين بما يتعلق بالدين. ومن ناحية أخرى أعلم أنه بالرغم من رسوخ المعتقدات الدينية لديهم، فقد كان الجميع يتعاملون باحترام ويتعاونون على الالتزام بالشعائر الدينية.

على الرغم من أننا كنا نعيش بعيداً عن خدمات ومرافق حياة المدينة، لم يكن لدينا أي وسائل لمواجهة الأمراض، في تلك الأيام كان لدي إيمان بالعلاج الطبيعي على قدر إيماني ببراءة الأولاد. وبما أننا كنا نعيش حياة بسيطة أحسست أنه لا يمكن أن تظهر الأمراض، ولكن إن حدث وظهر المرض، كنت واثقاً من قدرتنا على التعامل معه. كتيبي الصغير عن الصحة هو مفكرة تلخص تجاربي وإيماني الحي في تلك الأيام. كنت فخوراً بإيماني إلى الحد الذي جعل الأمراض بالنسبة لي أمراً غير وارد.
كنت مقتنعاً أنه يمكن علاج كافة الأمراض عن طريق الأرض والماء، أو الصيام والحمية. لم توجد ولا حتى حالة مرضية واحدة في المزرعة استدعت استخدام الأدوية أو استدعاء الطبيب. كان هناك رجل عجوز من شمال الهند، يبلغ من العمر 70 عاماً، كان يعاني من السعال والربو، ولكن علاجه ببساطة كان عن طريق تعديل في النظام الغذائي والمعالجة بالمياه. ولكني الآن فقدت شجاعتي نظراً لإصابتي بمرضين خطيرين، وأشعر أني حتى فقدت الحق في إجراء مثل هذه التجارب.

أثبتت مزرعة تولستوي أنها مركز لتنقية الروح والتكفير على طريق الحملة النهائية. لدي شكوك جدية حول ما إذا كان من الممكن أن يتم متابعة النضال لثماني سنوات، وما إن كان بإمكاننا تأمين أموال أكثر، وما إذا كان آلاف الرجال الذين شاركوا في المرحلة الأخيرة من الكفاح سيتحملون نصيبهم في ذلك؛ فيما لو لم توجد مزرعة تولستوي بالأصل. لم توضع مزرعة تولستوي أبداً في دائرة الضوء، لكن مؤسسة فعلت ذلك وجذبت تعاطفاً شعبياً لنفسها. رأى الهنود أن مزارعي مزرعة تولستوي كانوا يفعلون ما يعجزون هم أنفسهم عنه وما يتطلعون للوصول إليه في ظروف قاسية. هذه الثقة العامة كانت من مقومات الحركة عندما تم تنظيمها من جديد على صعيد واسع في عام 1913، ولا يمكن للمرء أن يدرك ما إذا عبرت هذه المقومات عن نفسها فعلاً، وفي حال فعلت، فمتى. بالنسبة لي، فأنا لا تراودني وسأطلب من القارئ أن لا تراوده ذرة من الشك في أن تصبح هذه المقومات الكامنة براءة اختراع مع مرور الأيام.


ترجمت من قبل بعض الأصدقاء من كتاب “الرسائل المتبادلة بين غاندي وتولستوي” – ب. سرينيفاسا مورثي

 

اترك تعليقاً