فلسفة تولستوي في المقاومة ضدَّ الاحتلال أو الاستبداد باستخدام فلسفة الحبّ، مستلهَم من “رسالة إلى هندوسي”

فلسفة تولستوي في المقاومة ضدَّ الاحتلال أو الاستبداد باستخدام فلسفة الحبّ، مستلهَم من “رسالة إلى هندوسي”

عُرف ليو تولستوي (1828-1910) بكونه أحد أعظم الكُتّاب الروس في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، لكنَّه لم يكن روائيًّا فحسب؛ فقد كان أيضًا فيلسوفًا أخلاقيًّا وصاحب نظرة شاملة تتجاوز مجرّد الإبداع الأدبي. في مؤلَّفه الشهير “رسالة إلى هندوسي” (A Letter to a Hindu) يتجلّى جانبٌ مهمٌّ من شخصيّته الفلسفيّة المتعلّقة بالمقاومة اللاعنفية القائمة على الحبّ. كَتَبَ تولستوي هذه الرسالة عام 1908 تقريبًا، ردًّا على أحد النشطاء الهنود (تاركناث داس كما تشير الوثائق التاريخية) الذي أرسل إليه منشوراتٍ تسعى لحثّ الهنود على مقاومة الاحتلال البريطاني آنذاك. جاءت إجابة تولستوي لتؤسِّس إحدى أهمّ الأطروحات الأخلاقية والمبدئيّة في المقاومة اللاعنفية، وهي الأفكار التي تأثّر بها لاحقًا مهاتما غاندي في طريقه نحو تحرير الهند، كما تأثّر بها مفكّرون وقادةٌ كُثُر في العالم.

إنّ جوهر فلسفة تولستوي في هذه الرسالة وفي غيرها يقوم على مبدأين أساسيَّين:

  1. قانون الحبّ الذي يحكم العلاقات الإنسانية حكماً أعلى وأشمل من كلّ القوانين الوضعية.
  2. بُطلانُ العنفِ كوسيلةٍ للتغيير أو كضرورةٍ واقعيةٍ في إدارة الشأن العام؛ إذ لا يتناسب مع طبيعة الإنسان التي ترتكز على الرحمة والضمير الأخلاقي.

في هذا المقال، سنقوم بقراءةٍ تفصيليّةٍ للفقرات والأفكار التي استعرضها تولستوي في “رسالة إلى هندوسي”، مع شرحٍ دقيقٍ للأمثلة والشواهد. وسنرصد كيف تتجلّى فلسفة الحبّ لديه بكونها السلاح الأصدق في وجه الاحتلال والاستبداد.


السياق التاريخي والفكري لرسالة تولستوي

كتب تولستوي “رسالة إلى هندوسي” في مرحلةٍ كثرت فيها الانتفاضات والمقاومات حول العالم ضدَّ الاستعمار الأوروبي. كانت الهند ترزح تحت قبضة الاحتلال البريطاني ذي النفوذ الاقتصادي والعسكري الهائل، ورغم ضخامة عدد السكان الهنود، فقد بدا الوضع وكأنّه يؤكّد مفارقةً عجيبة: “كيف لعدّة آلافٍ من الجنود والإداريين البريطانيين أن يُخضعوا شعبًا يزيد على مئات الملايين من البشر؟”

رأى تولستوي أنّ مردّ هذا الاستسلام الجماعي ليس في قوّة بريطانيا المطلقة، ولا في هشاشة الهند المطلقة؛ بل يعود أوّلًا وأخيرًا إلى فقدان الناس وعيَهم بأصلِ الطبيعة البشريّة، أي الحبّ. فالهنود—بحسب تحليله— قبلوا العنف الداخلي فيما بينهم (إذ نشأوا على اعتبار الرَّاجات والسلاطين والزعامات المحلّية سلطةً شبه مقدّسةٍ تُمارَس بالعنف والقوّة)، الأمر الذي جعلهم في وضعٍ يمهّد للخضوع لأيّ سلطةٍ أكبر، سواء كانت محلّية أو أجنبيّة.

وفي هذه الرسالة، يميل تولستوي إلى الجوهر الديني الأصيل المشترك في الهند وغيرها، والذي يرى في الحبّ قيمةً إنسانيّةً عليا، متجذّرةً في الفطرة، وموحَّدةً عند سائر الأديان الكبرى. بالتالي، فهو يعيدنا إلى روح “الڤيدا” و”الأوبنشاد” و”البوذية” و”المسيحية” و”الإسلام” وسواها، وكلّها تدور على حبّ الله الذي يعني حبّ الإنسان للإنسان.


مفهوم الحبّ في رسالة تولستوي: من الدين إلى الوعي الكوني

1. الحبّ كأساسٍ أخلاقيٍّ شامل

يشير تولستوي في الرسالة إلى أنّ “الله محبّة، ومن يثبت في المحبّة يثبت في الله والله فيه” (وهي آية توراتية–إنجيلية أيضًا من رسالة يوحنّا). ويستشهد كذلك بمقتبساتٍ من الفيدا الهندية: “كلّ ما هو موجود واحدٌ، والناس فقط يدعون هذا الواحد بأسماءٍ مختلفة”. وهذا يُظهر لنا أنّ تولستوي لا ينحصر في ديانةٍ بعينها؛ بل يسعى إلى إدراك مغزى جوهريٍّ يربط الأديان كلّها— وهو الروح المتجلّية في حبٍّ عابرٍ للذاتية الضيّقة والأحكام المسبقة.

2. الحبّ ضدّ الرغبات والأوهام

يستعير تولستوي اقتباساتٍ من “كريشنا” (حسب النصّ المذكور في الرسالة) تؤكّد ضرورة انتشال الإنسان من “السعي الحثيث خلف الرّغبات الأرضية والأوهام” وضرورة “عدم مقاومة الشر بالشر”، أو “عدم مقابلة العنف بعنفٍ مضاد”. فعندما يُعانق المرء الحبّ، تسقط الحواجز التي تقيّده، ويدرك “الحقيقة الخالصة” المتوارية خلف التشويش الاجتماعي والديني والسياسي.

3. تناقض الحبّ مع العنف

يؤكّد تولستوي أنّ الحبّ الحقيقي—بمعناه الأخلاقي والروحي—لا يمكن أن يقبل بأيّ منظومةٍ تشرّع العنف أو تبرّره أو تدعمه، سواءٌ باسم “حماية السلطة” أو “الحفاظ على النظام”. ومن هنا ينبثق التناقض الجذري: كيف نعترف بفضيلة الحبّ، ثمّ نقرّ تشريعاتٍ تقوم على الإكراه والتعذيب والقتل؟ فهذا ينقض طبيعة الحبّ ذاته.


فلسفة عدم مقاومة الشرّ بالعنف (اللاعنف) والأمثلة التطبيقية

1. مثال الهند وبريطانيا:

أشار تولستوي في الرسالة إلى مفارقةٍ واضحة: أهو معقولٌ أن يتحكّم ثلاثون ألف شخصٍ—من الإنكليز العاديين—بمئات الملايين من الهنود الأقوياء؟ الجواب عنده: **”هم لم يُخضعوا إلا لأنّ الهنود أنفسهم قبلوا بالخضوع”*؛ بمعنى أنّ الناس سلّموا مسبقًا بسلطة القوّة كقاعدة للعلاقات الاجتماعية. فلو تخلّوا عن مبدأ العنف، ورفضوا الانصياع للقوانين الظالمة (سواءٌ كانت ضرائب مجحفة أو واجب التجنيد أو المشاركة في لجان حكومية تشرّع الظلم)، لسقَطَت سلطة الاستعمار تلقائيًّا. إنّه نفس المنطق الذي اعتمده مهاتما غاندي لاحقًا في فكرة “الساتياغراها” (القوّة الكامنة في الحقيقة واللاعنف).

2. مثال “المُدان والمُدمن”

يشبّه تولستوي استعباد الإنجليز للهنود بقصّة السِّكِّير وتاجر الخمور. إذ يشتكي السّكِّير من أنّه “أسيرٌ لهذا التاجر الذي يبيعني الخمور باستمرار”! فيقول له الناصح: “كُفَّ عن الشرب”. ويردّ السِّكير: “أنا بحاجةٍ للشرب كي أحتفظ بطاقتي”. معنى ذلك أنّ المشكلة في استمرار حلقة الإدمان وإدمان القوّة، وهذا ما يحدث أيضًا بين المحتلّ والشعوب المحتلّة التي تستسيغ التبعيّة أو ترى العنف وكأنّه قدرٌ لا فرار منه.

3. أمثلة أخرى من الأديان والفلاسفة

  • في النصّ يستشهد تولستوي بمقاطع من “الكورال الهندي” وتوجيهات دينية مختلفة، تركّز على أنّ “عقاب فاعلي الشرّ هو أن يشعروا بالعار أمام لطف الآخرين”. هذه فكرة جذريّة: فعوضًا عن الانتقام أو القصاص الجسدي، يواجه الفرد شرَّ الآخر باللطف، فينكشف الشرّ كعيبٍ أخلاقيّ، ويوقِظ الضمير الإنساني لدى الجاني.
  • كذلك يستشهد بتعاليم بوذا والمسيح (لا سيّما فكرة “مَن ضربك على خدّك الأيمن فأدر له الآخر”)؛ ليؤكّد أنّ جوهر هذه النصوص كلّها واحد، وهو الخروج من دائرة العنف عبر قوّةٍ داخليةٍ أعمق، هي قوّة الحبّ.

كيف تُسهم فلسفة تولستوي في مقاومة الاحتلال أو الاستبداد؟

1. التحرّر من الخرافات القديمة والحديثة

يرى تولستوي أنّ الناس ليسوا بحاجةٍ إلى منظوماتٍ ضخمةٍ من الأفكار الزائفة—سواء دينيّةً خاطئةً أم علميّةً مزعومةً—ليبرّروا العنف. ويمثِّل بالخرافات الدينية التي تجعل الحاكم “ظلّ الله على الأرض”، أو التفاسير العلميّة التي تتذرّع بــ”قوانين التاريخ” و”حتميّة صراع البقاء” لتشريع العنف، مُشبِّهةً البشر بعالم الحيوان. كلّ هذه التبريرات سمومٌ تحاول إبعاد الإنسان عن القانون الأسمى: “قانون الحبّ”.

فعلى سبيل المثال:

  • الخرافة الدينيّة القديمة: “لا طاعة إلا لوليّ الأمر الذي نصبه الله”، أو “الملك يحكم بتفويض إلهي”.
  • الخرافة العلمية الحديثة: “العنف ضرورة تاريخية”، “البقاء للأصلح يعني أنّ علينا محاربة الآخرين بلا هوادة”.

يؤكّد تولستوي أنّ الإنسان، في جوهر طبيعته، مهيّأٌ لمبدأ الحبّ والتعاون. وإذا رفض المشاركة في أشكال القمع (التحاقًا بالجيش، دفع الضرائب الظالمة، قبول الاحتلال…) فسيُحرج الظالمُ ويعجز عن تثبيت سلطته.

2. دور التوعية الأخلاقية والدينية الحقّة

إنّ الرسالة لا تعني أن نتخلّى عن جوهر الأديان أو عن البحث العلمي؛ بل تدعو إلى التخلّص من السطحيّة والتحريف في كليهما، للعودة إلى المعنى الفطري الكامن في روح الإنسان، أي: “إدراك أنّ الحبّ هو القانون الأعلى”. ويشرح تولستوي أنّه لو استيقظت في كلّ فردٍ وعيٌ دينيٌّ حقيقي يُدرك هذه الحقيقة الأخلاقية السامية، لهَبَّ لنبذ الاضطهاد بجميع صوره، سواءٌ استبداد الأقلية ضدّ الأكثرية أو استبداد دولةٍ ضدّ شعبٍ مستعمَر.

3. اللاعنف والتحرّر العملي

يحذِّر تولستوي من مغبّة الدخول في دوّامة الثورات العنيفة بحجّة مقاومة احتلالٍ أو ظلم؛ ففي نظره، قد يُسقِط العنفُ احتلالًا ويستبدله باحتلالٍ آخر (أو باستبدادٍ داخلي). أمّا اللاعنف فهو السبيل الجذري القادر على تفكيك أسس العنف نفسه. فلو واجهت الأكثرية الظلمَ برفض أيّ تعاونٍ مع السلطة الظالمة، تتهاوى قوّتها تدريجيًّا؛ ذلك أنّ الدولة أو المستعمر لا يملك قوّةً مستقلّةً بذاته، بل يستمدّها من طاعة الناس وخضوعهم لإرادته.


تأثيرات “رسالة إلى هندوسي” وأمثلة واقعية

  1. غاندي والثورة اللاعنفية:
    لا يمكن قراءة فلسفة تولستوي في “رسالة إلى هندوسي” بمعزلٍ عن التأثير الذي أحدثته في مهاتما غاندي. ففي مقدّمة كتاب غاندي “المقاومة السلميّة” (Satyagraha) نجد إشارةً واضحةً إلى أن بعض أفكار تولستوي، ومن بينها هذه الرسالة، قد ساعدت على بلورة مفاهيم اللاعنف وتحويلها من مجرّد مبادئ دينية وأخلاقية إلى خطة عملٍ سياسيٍّ واجتماعيٍّ ناجعة. فغاندي اعتمد على مبدأ اللاعنف (أو الـ Ahimsa) أيضًا من الإرث الديني الهندوسي والبوذي، لكنه وجد في كتابات تولستوي تحفيزًا إضافيًّا ومنطقًا عمليًّا منظّمًا.
  2. حركات الحقوق المدنية في أمريكا:
    لاحقًا، استلهم مارتن لوثر كينغ الابن من أفكار اللاعنف عند غاندي وتولستوي، فبنى حركته المناهضة للفصل العنصري بطريقةٍ ترفض العنف، معتبرًا أنّ “الليل لا يطرد الليل، بل النور هو الذي يفعل ذلك”. هذه التطبيقات التاريخية تُبرهن ما ذهب إليه تولستوي من أنّ حبّ الإنسان لأخيه الإنسان يظلّ أقوى من أيّ سلطةٍ قائمةٍ على القوة المادّية وحدها.
  3. حركات تحرّرٍ أخرى:
    ظهرت بصمات فلسفة الحبّ اللاعنفية في حركاتٍ عديدةٍ حول العالم، من أوروبا الشرقية وصولًا إلى أمريكا اللاتينية، حيث برزت حركات اجتماعية تسعى لتحقيق مطالبها بأساليب سلمية.

الانتقادات والردود

  1. الواقعيون يرون أنّ “المحبة” مبدأ نبيلٌ لكنّه غير واقعي في مواجهة آلة عسكرية ضخمة. ويجيبهم تولستوي بأنّ العنف هو—في نهاية المطاف—علاجٌ سطحي؛ إذ لا يفعل سوى استبدال سلطةٍ ظالمةٍ بأخرى، فيما اللاعنف يعمل على تفكيك البُنى المستبدّة داخليًّا وخارجيًّا.
  2. هل العنف حتميّ تاريخيًّا؟ يعتبر بعض المؤرخين والمفكّرين أنّ التاريخ البشري سلسلةٌ من الحروب والثورات الدموية، وأنّ “اللاعنف” استثناءٌ محدود. لكنّ تولستوي يرى العكس: فقد مثّل الحبّ والتعاون الأساس الأكبر من عمر البشرية، بينما العنف ظاهرةٌ عارضةٌ يزيدها جهل الناس بحقائق روحهم الفطرية.
  3. العنف الدفاعي: هناك أيضًا جدالٌ حول أنّه إذا لم نستخدم العنف في مواجهة الظلم، فستضيع الحقوق. أمّا تولستوي فيشدّد على أنّ العنف يولّد العنف، وأنّ منع الظالم من الاستمرار بظلمه لا يلزمه بالضرورة مقابلته بسلاحه؛ بل يمكن العصيان المدني الشامل ورفض التعاون ورفض المشاركة (الامتناع الجماعي عن دعم الظالم بأيّ شكل).

استنتاجات وعِبَر من نصّ تولستوي

  1. قانون الحبّ فِطرةٌ إنسانيّة
    بدايةً، ينادي تولستوي بأنّ الإنسان ليس محكومًا بالحتمية الحيوانية لصراع البقاء؛ بل يتميّز بالعقل والضمير. وطالما أنّ “الله هو الحبّ”، فذلك يعني أنّ الإنسان يتّصل بهذه الحقيقة الوجودية الكبرى عبر حبّه لسواه.
  2. لا حرية حقيقية دون حبّ
    إنّ المجتمع الذي يرتكز على القوّة وحدها لا يمكن أن يكون حرًّا بحقٍّ، لأنّه مقيّدٌ بخوف العقوبة وحسابات النفوذ. أما الحبّ—بحسب تولستوي—فيجعل الإنسان يُفرِغ قلبه من الأحقاد والرغبات الضيّقة، فيتحرّر داخليًّا، ويمتلك شجاعة قول “لا” بوجه الظلم والعدوان.
  3. الاحتلال والاستبداد يعتمدان على “طاعة الضحايا”
    يتكرّر هذا المعنى في الرسالة حين يقول تولستوي: لو امتنع الناس عن دفع الضرائب الجائرة أو الالتحاق بالجيش أو المساهمة في إدارة حكومةٍ ظالمة، لسقطت هذه الحكومة تحت ثقل عجزها. بهذا المنطق، لن يستطيع الظالم الاستمرار ما لم يشارك الناس أنفسهم في دعم استبداده.
  4. مقاومة العنف تبدأ من وعي داخلي
    لا تُحلّ القضايا العظمى بتغيير الحكومات فقط؛ إذ يوضح تولستوي أنّ المشكلة أعمق من المؤسَّسات. إنّها تكمن في استعداد البشر أنفسهم للخضوع أو الخنوع أو تسليم زمام أمورهم لأفكارٍ خاطئة. ومتى استوعب الفردُ أنّ الحبّ قوّةٌ لا تقهَر وأنّه بوسعه رفض العنف حتى وهو أعزل، حينئذٍ تبدأ دورة التاريخ بالتغيّر.

أمثلة تطبيقية معاصرة على روح الرسالة

  • الانتفاضات الشعبية السلمية: في عدّة بلدانٍ عربيّة وأجنبيّة شهدنا حركاتٍ جماهيريّةً تحتجّ بأساليبٍ سلمية (المسيرات الصامتة، الاعتصامات الدورية، العصيان المدني…)، وأظهرت نجاحًا في شلّ مؤسَّسات القمع وتحرير مساحاتٍ واسعة من الخوف.
  • التربية على قيم اللاعنف: حركاتٌ اجتماعيةٌ وثقافيةٌ عديدة رأت أنّ التأسيس الحقيقي يبدأ من المدرسة والأسرة، عبر تعليم الأطفال فنّ “حلّ النزاعات” بالحوار والسلام. وهذا امتدادٌ طبيعيٌّ لما قاله تولستوي عن “أن نصير كالأطفال في تواضعنا وسعادتنا، فنجد الله”.
  • الاقتصاد الأخلاقي: دعا فلاسفةٌ معاصرون إلى إعادة صياغة الاقتصاد على نحوٍ يضمن حقوق العمّال ويقلّل الاستهلاك المدمّر؛ فاللاعنف يتجلّى أيضًا في العلاقات الاقتصادية التي تمنح كرامةً للأشخاص، عوضًا عن السعي لاستغلالهم.

ختاماً

إنّ “رسالة إلى هندوسي” لتولستوي ليست نصًّا عابرًا لحقبةٍ تاريخيةٍ محدّدة؛ بل هي خطابٌ موجَّهٌ إلى الضمير الإنساني كلّه، في كلّ زمانٍ ومكان. فهي تستحضر جذورًا روحيةً مشتركة في مختلف الأديان والفلسفات، وتبيّن أنّ الحبّ ليس فكرةً رومانسيةً حالمة، بل هو “القانون الأخلاقي الأعلى” الذي يجب أن يتحكّم في علاقات البشر لو أرادوا تحرّرًا حقيقيًّا من سلاسل القمع المتبادَل. إنّ مقاومة الظلم والاستبداد لا يلزمها مزيدٌ من الدماء والعنف والانتقام؛ بل تستدعي شجاعةً روحيةً وفكريّةً تُتيح للناس—في كتلتهم الغالبة—أن يتوقّفوا عن الصمت والانقياد.

وهنا تتجلّى مساهمة تولستوي الفريدة: فقد بيّن بالبرهان الأخلاقي والإنساني أنّه عندما يأبى الأفراد المشاركة في منظومة الظلم، لا تبقى للسلطة المستبدّة أيّ ركائز. وإذا كان “الله محبّة” فإنّ السبيل السليم للوصول إليه إنّما يكون بإظهار الحبّ للبشر ونبذ العنف ضدّهم، وهذا ما يجعل الإنسان حرًّا بحقّ، وينزع من المستبدّين قدرتَهم على استمرار استبدادهم.

لقد اشتعلت في تاريخ البشرية صراعاتٌ طاحنةٌ تهدف لإزالة الظلم، لكنّها كثيرًا ما تحوّلت بدورها إلى ممارسةٍ للظلم بشكلٍ مختلف. أمّا فلسفة تولستوي، فتُعلِّمنا أنّنا لا يمكن أن نُنهِي الظلم إذا استخدمنا الوسائل ذاتها التي يستخدمها الظالم، بل نُنهيه حين نُعرّي بشرعيّته وأساسِ قوّته من الداخل، ونواجهه بالحبّ الذي يجعله عارياً أمام ضمير الإنسانية.

“لا تقاوموا فاعلي الشرّ بالعنف، ولا تقدّموا لهم الوسائل التي يستمدّون منها سلطتهم. حرّروا أنفسكم في دواخلكم من الخوف والكراهية، عندها تسقط قيود الطغيان تلقائيًّا.” – هذا هو الدرس الكبير الذي أراد تولستوي (في رسالته إلى الهندوسي) أن يرسّخه في عقول وقلوب الشعوب التّوّاقة للحرّية.

إنّنا أمام رؤيةٍ لا تقدّم حلولًا سريعةً وآنيّة، بل تحملنا إلى إعادة النظر جذريًّا في معنى وجودنا الإنساني والقيم التي تحكم سلوكنا تجاه الآخرين. هكذا تصبح المقاومة السلميّة فلسفةَ حياةٍ كاملةٍ تقودنا إلى الخلاص من العنف في كافة المستويات، وتفتح أفقًا جديدًا للبشرية كي تعيش في سلامٍ يُعبِّر عن جوهرها الفطري، جوهر الحبّ.


مستمد من “رسالة إلى هندوسي” – تولستوي
كتب بواسطة تشات جي بي تي

 

اترك تعليقاً