رائحة الذكريات: كيف تربطنا الروائح بالماضي وتؤثر على دماغنا

رائحة الذكريات: كيف تربطنا الروائح بالماضي وتؤثر على دماغنا

هل سبق لك أن شممت نفحة من شيء مألوف ووجدت نفسك فجأة تنتقل بالزمن إلى الوراء، وتسترجع ذكرى منسية منذ فترة طويلة بتفاصيل حية؟ ربما تذكرك رائحة الخشب المقطوع بورشة جدك، أو تعيدك رائحة الخبز الطازج إلى مطبخ طفولتك. إذا كان الأمر كذلك، فأنت لست وحدك. تتمتع حاسة الشم لدى الإنسان بقدرة رائعة على إثارة الذكريات والعواطف، غالبًا بطرق لا نتوقعها على الإطلاق.

لقد كانت العلاقة بين الرائحة والذاكرة موضوعًا مثيرًا للعلماء وعلماء النفس لعقود من الزمن. وتبين أن هذه الظاهرة ليست مجرد غموض في التجربة الإنسانية؛ بل لها أساس علمي متين. واللاعب الرئيسي في هذه العملية هو منطقة الحصين في الدماغ، وهي المنطقة المسؤولة عن تكوين واسترجاع الذكريات.

عندما نواجه رائحة معينة، فإنها يمكن أن تنشط منطقة الحصين في الدماغ وتحفز استرجاع الذكريات المرتبطة بتلك الرائحة. يمكن أن تكون هذه الذكريات مفصلة بشكل لا يصدق ومشحونة عاطفيًا، وفي بعض الأحيان تسترجع لحظات كنا نظن أنها منسية منذ زمن طويل. هذه القدرة على إحياء الذكريات من خلال الرائحة هي شهادة على الأعمال المعقدة لأدمغتنا.

الروائح الشائعة وسحرها المحفز للذاكرة

تشتهر بعض الروائح بقدرتها على تحفيز الذاكرة أكثر من غيرها فيمكن لرائحة الخبز الطازج أو البسكويت أو الكعك أن تنقلك إلى لحظات عزيزة في مطبخك أو تذكرك بالتجمعات العائلية. إن الدفء والراحة المرتبطين بهذه الروائح يجعلها محفزات قوية للذاكرة بشكل خاص. ويمكن لرائحة الكلور الحادة بجانب حمام السباحة أثناء العطلات الصيفية أن تستحضر على الفور ولبعض الناس صورًا للأيام الخالية من الهموم التي قضوها في الماء مع الأصدقاء والعائلة. إنها رائحة حنين تحمل جوهر متعة الصيف. أما إذا كنت قد عشت بجوار البحر أو استمتعت بإجازات على الشاطئ، فإن رائحة المياه المالحة ونسيم البحر يمكن أن تثير ذكريات قوية عن الشواطئ الرملية، وغروب الشمس، وصوت الأمواج المتلاطمة. إنها رائحة تجسد الاسترخاء والهروب.

ومن الروائح المثيرة أيضاً هي رائحة القهوة الطازجة التي تتمتع بقدرة فريدة على إيقاظ حواسك وكذلك ذكرياتك. قد يذكرك هذا بالصباح الباكر مع من تحب، أو قد ينقلك إلى المقاهي المريحة حيث قضيت ساعات طويلة في المحادثة أو القراءة.

ومن منا لا تؤثر فيه رائحة المطر الذي يضرب الأرض الجافة، وهي رائحة يمكن أن تثير ذكريات الأيام الممطرة والمريحة والآمنة التي قضيناها في الداخل، أو حتى ذكريات الطفولة أثناء اللعب بعد الجو الماطر بمياه البرك.

لماذا يحدث هذا؟

الآلية الدقيقة وراء هذه الظاهرة ليست مفهومة تماما، ولكن يعتقد أنها مرتبطة بالطريقة التي يخزن بها الدماغ الذكريات ويستعيدها. حبث تشترك حاسة الشم في علاقة حميمة مع المراكز العاطفية في الدماغ. يلعب الجهاز الحوفي دورًا حاسمًا في توليد استجابات عاطفية للروائح، بينما تساعد القشرة الأمامية الحجاجية في التعرف على الروائح والتمييز بينها، وربطها بتجارب وذكريات محددة. على عكس الحواس الأخرى، تتجاوز الرائحة المهاد وتتصل مباشرة بالحصين، مركز الذاكرة في الدماغ.

يفسر هذا الارتباط المباشر بين الرائحة والذاكرة العاطفية سبب قدرة الروائح على إحياء مشاعر الماضي المدفونة بعمق. غالبًا ما ترتبط هذه الذكريات الناجمة عن الرائحة بأحداث عاطفية مهمة، مما يجعلها فعالة بشكل خاص في إثارة المشاعر والذكريات.

احتضان اتصال الذاكرة والرائحة

إن قدرة الروائح على إعادتنا بالزمن إلى الوراء وإثارة مشاعر قوية هي شهادة على مدى تعقيد وثراء الذاكرة البشرية. إنه تذكير بأن أدمغتنا تقوم باستمرار بجمع الخبرات والحفاظ عليها، حتى عندما لا ندرك ذلك. لذا، في المرة القادمة التي تشم فيها رائحة مألوفة في الهواء وتجد نفسك فجأة منغمسًا في ذكرى من الماضي، خذ لحظة لتذوق التجربة. احتضن قوة الرائحة التي تربطك بتاريخك الشخصي والعواطف التي تجعل رحلة حياتك فريدة من نوعها.

في عالم غالبًا ما يبدو سريع الخطى وعابرًا، تذكرنا قدرة الروائح على إعادتنا بالزمن إلى الوراء بالطبيعة الدائمة والساحرة للذاكرة. اعتز بتلك اللحظات التي يمكن فيها لرائحة بسيطة أن تجعل الماضي يبدو وكأنه الحاضر مرة أخرى. فكر في ذكرياتك كدرج واسع بلا حدود. يمكنه تخزين كمية غير محدودة من المعلومات، لكن إمكانية الوصول إليها تختلف. تقوم أدمغتنا بتحديد أولويات الذكريات وخلطها بناءً على أهميتها المتصورة في أي لحظة. كلما كانت الذاكرة غامضة، كان من الصعب استرجاعها.

فقدان حاسة الشم: علامة تحذير

مع تقدمنا في العمر، تميل حاسة الشم لدينا إلى التراجع، ولكنها يمكن أن تشير أيضًا إلى اضطرابات كامنة. وقد سلطت جائحة كوفيد-19 الضوء على هذه الظاهرة، حيث فقد العديد من الأفراد حاسة الشم بشكل مؤقت، وواجه البعض فقدان الشم بشكل دائم.

ومن المثير للاهتمام أن العديد من الحالات المرتبطة بفقدان حاسة الشم هي حالات تنكس عصبي، وغالبًا ما تكون مصحوبة بمشاكل في الذاكرة. يمكن أن يكون هذا التدهور في حاسة الشم نذيرًا لمشاكل أكثر خطورة. ويرتبط الانخفاض المستمر في اكتشاف الرائحة بفقدان المادة الرمادية في الحصين، مما يشير إلى بداية الضعف الإدراكي المعتدل (MCI) وربما التقدم إلى مرض الزهايمر.

ومع ذلك، من المهم الإشارة إلى أنه ليس كل حالات فقدان الشم تؤدي إلى مرض الزهايمر؛ بل يمكن أن يكون مؤشرًا لمجموعة من الحالات العصبية والنفسية، بما في ذلك مرض باركنسون، وخرف أجسام ليوي، ومرض كروتزفيلد جاكوب، وإدمان الكحول، والفصام.

تسخير الروائح لإعادة تأهيل الذاكرة

بالنسبة للأفراد الذين يعانون من حالات عصبية مثل مرض الزهايمر أو مرض باركنسون، فإن غياب التحفيز الشمي يمكن أن يؤدي إلى تفاقم الأعراض الأخرى. كشفت دراسات متعددة عن وجود علاقة قوية بين حاسة الشم القوية وانخفاض خطر الوفاة بشكل عام.

وقد أثارت هذه الرؤية الاهتمام باستكشاف الإمكانات العلاجية للروائح لتحفيز وإعادة تأهيل الذاكرة لدى المرضى الذين يعانون من اضطرابات عصبية. تشير النتائج المبكرة إلى أن الإثراء الشمي، الذي يتضمن التعرض لمجموعة متنوعة من الروائح، يمكن أن يعكس فقدان الرائحة الناجم عن العدوى، وصدمات الجمجمة، ومرض باركنسون، والشيخوخة. يرتبط هذا التحسن بتعزيز القدرة الإدراكية والذاكرة.

العلاج بسيط وأنيق: التعرض اليومي لمجموعة من الروائح. وتشير دراسة حديثة إلى أن ساعتين فقط في الليلة، على مدى ستة أشهر، يمكن أن تؤدي إلى تحسين وظيفة الذاكرة. وفي حين أن هناك حاجة إلى مزيد من الأبحاث لتحديد العلاقة بشكل نهائي بين التحفيز الشمي المنتظم وحماية الدماغ، فإن الأدلة الأولية واعدة.

ختاماً، إن العلاقة العميقة بين حاسة الشم والذاكرة لدينا هي شهادة على الأعمال المعقدة للدماغ البشري. إن قدرة الروائح على نقلنا عبر الزمن، واستحضار العواطف والذكريات التي اعتقدنا أنها ضائعة، هي إحدى أعاجيب الطبيعة. عندما نستكشف الإمكانات العلاجية للتحفيز الشمي للاضطرابات العصبية، فإننا نقدر عمق تجاربنا الحسية.

يقول مارسيل بروست، “العطر هو آخر وأفضل مخزون من الماضي، العطر هو الذي يمكن أن يجعلنا نبكي مرة أخرى عندما تجف الدموع”. في الواقع، إن رائحة ذكرياتنا هي التي تبقي ماضينا حيا، وبذلك تثري حاضرنا ومستقبلنا.


المصدر: theconversation.com
الصورة من عمل: Pvproductions on Freepik

 

أخبار تسعدك

اترك تعليقاً