حول اختلاف استجابات الأفراد للصدمة النفسية: بين التحليل النفسي الكلاسيكي وعلم النفس الإيجابي ووجهة النظر القرآنية

تُعتبر الصدمات النفسية (Traumas) من أكثر الخبرات الإنسانية إشكالية وتأثيرًا في تشكيل الشخصية والسلوك. يتعرّض الناس على مر التاريخ لمواقف بالغة الشدة، مثل العيش في بيئة عنيفة أو حروب أو كوارث طبيعيّة أو اعتداءات مختلفة، فتتباين استجاباتهم لهذه الصدمات على نحو واسع. قد نجد من يتخذ من آلامه دافعًا نحو الإبداع الفكري والفلسفي، ومن يتعامل معها بطريقة تتسم بالعنف أو العدوانية. هنا تبرز تساؤلات جوهرية:
- هل اختيار نوع الاستجابة متعلّق بحرية الفرد وإرادته؟
- أم هل تلعب العوامل الجينية والنفسية والثقافية دورًا حاسمًا في هذا الاختيار؟
- كيف تفسّر المدارس النفسية الكبرى—بدءًا من فرويد ويونغ ووصولًا إلى فيكتور فرانكل—هذا الاختلاف في الاستجابة؟
- ماهي وجهة النظر القرآنية حول هذا الموضوع وإلى أي مدرسة نفسية هو اقرب.
يهدف هذا المقال المطول إلى استعراض مفهوم الصدمة النفسية بشكل موسّع، وتحليل العوامل التي تجعل فردًا معيّنًا يميل إلى التأمّل الفلسفي والتسامح والنمو بعد الصدمة، بينما يميل آخر إلى التطرّف أو العدوانية أو حتى إلى ارتكاب جرائم. سنستعرض أيضًا أبرز نظريات التحليل النفسي الكلاسيكي (فرويد ويونغ) ونقارنها مع أطروحات علم النفس الإيجابي المتمثل في رؤية فيكتور فرانكل حول “البحث عن المعنى” ودور الإرادة والمعنى في تجاوز الصدمة.
مفهوم الصدمة النفسية
1. التعريف
الصدمة النفسية تُعرَّف على أنّها استجابة نفسية وفسيولوجية شديدة لحادث مفاجئ أو متكرر يفوق قدرة الفرد على التكيف. لا يقتصر تعريف الصدمة على الحروب أو التعرض للعنف الجسدي؛ فقد تكون الصدمة أيضًا نتيجة للتحرش أو الاعتداء اللفظي أو العيش في أسرة مفككة أو حتى التعرّض لمشاهد قاسية.
2. الأثر النفسي
غالبًا ما تؤدي الصدمة إلى شعور عارم بالخوف والقلق، وقد يظهر اضطراب الكرب التالي للصدمة (PTSD) الذي يتمثل في ذكريات اقتحامية (Flashbacks) واضطرابات في النوم واليقظة وإعادة عيش التجربة الصادمة بشكل متكرر. ومع ذلك، لا يمر الجميع بالمسار المرضي ذاته؛ إذ يتمكن البعض من تطوير مرونة نفسية (Resilience) تجعلهم قادرين على تجاوز التجربة بنجاح.
تنوع ردود الفعل تجاه الصدمة
1. البقاء في حالة إنكار أو عزلة
يتجه بعض الأشخاص نحو الانسحاب والانغلاق على الذات، فيحاولون تناسي الصدمة أو إنكارها. قد يقودهم ذلك إلى حالة من القلق أو الاكتئاب على المدى الطويل.
2. التحوّل إلى عدوانية وعنف
في بعض الحالات، يتم توجيه الألم الداخلي إلى الخارج في صورة عدوانية، وقد يصل إلى الإجرام أو الاعتداء على الآخرين. يمكن اعتباره سلوكًا دفاعيًا أو تحويلاً (Displacement) في مصطلحات التحليل النفسي.
3. البحث عن معنى أو فلسفة في الألم
على النقيض من ذلك، نجد أفرادًا يسعون إلى تحويل آلامهم إلى قوة إبداعية أو فلسفية، فيدفعهم الألم إلى التساؤل عن ماهية الحياة والغاية منها، وقد يقودهم هذا إلى بلورة رؤى وقناعات عميقة حول الوجود والإنسان.
4. التحول الإيجابي أو “النمو بعد الصدمة”
يركّز علم النفس الإيجابي على فكرة “النمو بعد الصدمة” (Post-traumatic Growth)، حيث يستغلّ الفرد التجربة الصعبة لصياغة نظرة جديدة للحياة وقيم جديدة.
العوامل المؤثرة في تحديد الاستجابة
1. العوامل الجينية والبيولوجية
لا يمكن إغفال الجانب البيولوجي والجيني في تفسير الاختلافات السلوكية بين الأفراد. تشير بعض الأبحاث إلى وجود استعداد وراثي لدى البعض لتطوير اضطرابات معينة كالاكتئاب أو القلق عند التعرّض لصدمات، بينما قد يملك آخرون مرونة وراثية تجعلهم أكثر قدرة على التجاوز والتكيُّف.
2. العوامل النفسية (الشخصية وأنماط التكيف)
- السمات الشخصية: كدرجة الانفتاح على التجربة والقدرة على التحكم بالذات والذكاء العاطفي.
- التاريخ النفسي: إذا كان الفرد يمتلك خبرات إيجابية سابقة في التعامل مع الضغوط، أو كان لديه دعم أسري واجتماعي، فإن ذلك يُحسّن من استجابته للصدمة.
- التنشئة والتعلّم: البيئة المبكرة التي نشأ فيها الفرد تلعب دورًا مهمًا في تشكيل استراتيجيات التعامل مع المواقف الصعبة.
3. العوامل الثقافية والمجتمعية
المجتمع والثقافة يحددان معايير ردود الفعل “المقبولة” أو “المرفوضة”. بعض المجتمعات قد تشجع الكبت والمكابرة، وأخرى قد تشجع التعبير عن المشاعر بوضوح. كما يلعب العامل الديني والإيماني دورًا لدى الكثير من الأفراد في منحهم الإحساس بالمعنى وتخفيف وقع الصدمة.
4. السياق والتوقيت
قد تتباين استجابة الشخص للصدمة حسب التوقيت الذي يتعرض فيه للحدث الصادم. فالتعرّض لعنف منزلي في سن صغيرة يختلف في تأثيره عن التعرّض للصدمات في مرحلة البلوغ، نظرًا لاختلاف القدرات المعرفية والوجدانية في كل مرحلة.
قراءة تاريخية في المدارس النفسية الكلاسيكية
1. سيغموند فرويد (1856-1939) والتحليل النفسي
يُعتبر فرويد مؤسس التحليل النفسي وأحد أبرز الأسماء التي ناقشت الصدمة. لكن تركيزه انصبّ بالدرجة الأولى على:
- دور اللاوعي (Unconscious): يرى أنّ كثيرًا من الصراعات النفسية تكمن في أعماق العقل اللاواعي، نتيجة كبت تجارب أو رغبات معيّنة.
- الليبيدو (Libido) والطاقة النفسية: يُفسّر فرويد بعض الأنماط السلوكية كرد فعل لإفراط أو عدم إشباع للطاقة الجنسية أو العدوانية.
- الميكانزمات الدفاعية: مثل الكبت (Repression)، والإزاحة (Displacement)، والإسقاط (Projection)، حيث قد يفسّر تحوّل الشخص إلى العنف كرد فعل دفاعي على ألم داخلي مكبوت.
بالنسبة لفرويد، الصدمة قد تستدعي ذكريات مكبوتة تعود إلى مراحل الطفولة المبكرة، وخصوصًا تلك المرتبطة بالصراع بين الهو (Id) والأنا (Ego) والأنا الأعلى (Superego). وقد يستخدم الفرد آليات الدفاع للتغلب على هذه الصراعات. من هذا المنطلق، من يصبح فيلسوفًا أو مبدعًا نتيجة الصدمة قد يكون قد حوّل طاقته اللاواعية الكامنة إلى مجالات فكرية أو فنية، فيما قد يلجأ آخر إلى العنف نتيجة عدم نجاح هذه التحويلات الإبداعية.
2. كارل غوستاف يونغ (1875-1961) والتحليل النفسي التحليلي
يشترك يونغ مع فرويد في أهمية اللاوعي، لكنه أضاف:
- اللاوعي الجمعي (Collective Unconscious): حيث يرى أنّ هناك أرشيtypes (أشكال مبدئية) مشتركة بين البشر، تؤثر في بناء شخصياتهم واستجاباتهم.
- مفهوم “الفردانية” (Individuation): الذي يركز على رحلة الإنسان نحو اكتشاف ذاته الحقيقية والتكامل بين الجوانب الواعية وغير الواعية.
في فهم يونغ للصدمة، قد يواجه الفرد صراعًا مع أنماط بدائية (Archetypes) مثل الظل (Shadow) الذي يمثل الجوانب المظلمة وغير المقبولة من النفس. إذا استطاع الفرد الاندماج مع ظله وتقبله، فقد يخرج بمحصلة إيجابية للذات (مثل التحول إلى مفكر عميق). أما إذا فشل هذا الاندماج وتملّكه الظل، فقد ينقلب سلوكه إلى العنف أو الإجرام.
مدرسة علم النفس الإيجابي: فيكتور فرانكل
1. الخلفية والأفكار الرئيسية
يُعتبر فيكتور فرانكل (1905-1997) أحد رواد العلاج بالمعنى (Logotherapy)، وهو منهج علاجي قائم على البحث عن معنى للحياة في أحلك الظروف. عايش فرانكل تجربة مريرة في معسكرات الاعتقال النازية، مما دفعه إلى أن يتأمل في قدرة الإنسان على الصمود والبحث عن معنى حتى في أقسى الظروف.
2. “الإنسان يبحث عن المعنى”
من أشهر مؤلفاته كتاب “الإنسان يبحث عن المعنى” (Man’s Search for Meaning)، الذي وضع فيه أسس نظريته:
- الإرادة الحرة والاختيار: يرى فرانكل أنّ الإنسان مهما كانت ظروفه قاهرة فإنه يملك الحرية الداخلية في اختيار رد فعله.
- أهمية المسؤولية: يربط فرانكل بين الحرية الداخلية التي يمتلكها الإنسان والمسؤولية الشخصية، فالإنسان مسؤول عن تشكيل حياته وخلق معناه.
- البُعد الروحاني: ليس بالضرورة دينيًا، بل يتمثّل في شعور الإنسان بإنسانيته ورابطه مع الحياة والآخرين.
3. انعكاس هذه الرؤية على الصدمة
وفقًا لفرانكل، يمكن للصدمة أن تكون فرصة للتساؤل واكتشاف معنى جديد للحياة. لا يعني هذا تجاهل الألم أو المعاناة، بل مواجهتها مع الإيمان بقدرة الإنسان على الخروج بمعنى سامٍ يخفف من ثقل المحنة. من هنا، تنبع المرونة النفسية أو النمو بعد الصدمة.
المقارنة بين المدارس
العنصر | فرويد ويونغ (التحليل النفسي الكلاسيكي) | فيكتور فرانكل (علم النفس الإيجابي/العلاج بالمعنى) |
---|---|---|
محور التركيز | الصراع الداخلي واللاوعي الفردي/الجمعي | المعنى والحرية الداخلية والإرادة |
دور الماضي | جوهري في تشكيل العقد النفسية والصراعات اللاواعية | مهم لفهم السياق لكنه لا يحدد المصير نهائيًا |
دور الحتمية | يرى فرويد توجهًا حتميًا إلى حدٍ ما بقوة اللاوعي | التأكيد على المسؤولية الشخصية والاختيار |
هدف العملية | الكشف عن المكبوتات وإعادة التوازن النفسي | اكتشاف معنى شخصي للحياة والتعلُّم من المعاناة |
المآل الممكن | إما تطهير (Catharsis) وتحول إيجابي أو بقاء الصراعات الدفينة | تحوّل إيجابي ونمو بعد الصدمة إذا نجح الفرد في إيجاد معنى |
المحصلة:
- في إطار التحليل النفسي الكلاسيكي، يُنظر إلى الصدمة على أنها تفجّر صراعات داخلية موجودة مسبقًا. من يستجيب بشكل إيجابي قد يكون قادرًا على “تصعيد” (Sublimation) طاقاته إلى مجالات إبداعية. أما من يغرق في الصراع فقد يصبح أكثر عدوانية أو إجرامًا.
- في إطار علم النفس الإيجابي، وخاصة عند فرانكل، الرؤية أكثر تفاؤلية وإرادية؛ حيث يظل الإنسان قادرًا على اختيار رد الفعل المناسب واستخلاص معنى من الألم.
أمثلة إكلينيكية وقصص واقعية
1. مثال على شخص تحول إلى فيلسوف أو باحث عن الحقيقة
- قصة “مالك” (اسم افتراضي): نشأ مالك في أسرة مضطربة شهدت الكثير من الشجارات العنيفة بين والديه. تعرّض للعنف اللفظي والجسدي. خلال مراهقته، بدأ يبحث عن تفسير لمعاناته وأسئلة عن معنى الحياة، فتوجّه إلى قراءة الفلسفة والدراسات الدينية. وجد في تلك القراءات سبيلاً لتفريغ شحنات الألم لديه، وتعلم منها قيم التعاطف والتسامح. بعد سنوات، أصبح باحثًا وكاتبًا حول قضايا العدالة الاجتماعية، مستخدمًا تجربته الشخصية كحافز لطرح رؤى أعمق تجاه مشكلات العنف الأسري.
تحليل فرويدي: قد يرى أنّ مالك استخدم آلية “التصعيد” (Sublimation)؛ حيث وجّه طاقته العدوانية المكبوتة نحو الفكر والإبداع.
تحليل فرانكلي: استخدم حرية اختياره ومسؤوليته في إعطاء معنى لمعاناته، فاختار أن يستثمرها لخدمة قضية إنسانية أكبر.
2. مثال على شخص تحول إلى العنف أو الإجرام
- قصة “سامي” (اسم افتراضي): تعرّض سامي لنفس الظروف تقريبًا التي مر بها مالك، من عنف منزلي وجو عائلي متوتر. لكنه بدلاً من السعي إلى الهروب الفكري أو التأمل، تطور لديه الشعور بالغضب والرغبة في الانتقام. في شبابه، انخرط في أنشطة إجرامية وارتكب اعتداءات جسدية ضد الآخرين، مبررًا ذلك بأن “العالم قاسٍ ويستحق الانتقام”.
تحليل فرويدي: قد يُقال إنّ “سامي” عجز عن توظيف آليات دفاع متكيّفة مثل التصعيد أو التسامي، ولجأ إلى “الإزاحة” (Displacement) بتحويل معاناته ضد أشخاص آخرين.
تحليل فرانكلي: يقال إنّ سامي—بالرغم من معاناته—امتلك اختيارًا داخليًا؛ إلا أنّه بدل أن يرى المعنى أو يبحث عنه، استسلم لفكرة العدوان وألقى بالمسؤولية على البيئة وعجز عن تحمل الحرية الداخلية.
هل نوع الاستجابة خيار أم حتمية؟
بعد عرض المنطلقات النظرية والأمثلة:
- العوامل الجينية والبيولوجية قد توفّر أرضية مختلفة لكل شخص في طريقة معالجة الضغوط والاضطرابات العاطفية.
- العوامل النفسية (مثل نضج الأنا أو مستوى الذكاء العاطفي) قد تتيح للفرد فرصة أكبر أو أقل في التعامل المرن مع الأحداث الصعبة.
- العوامل الاجتماعية والثقافية مثل الدعم الأسري والقوانين المجتمعية قد تيسر توجيه الفرد نحو سلوك إيجابي أو سلبي.
- حرية الاختيار والإرادة: يظهر جليًا، خصوصًا في مدرسة فرانكل، أنّ الإنسان يمتلك—على الرغم من كل المعوقات—جانبًا من الحرية والقدرة على اتخاذ القرار الحاسم بشأن استجابته لمعاناته.
وجهة النظر القرآنية حول التباين في الاستجابة للصدمة: منظور نفسي إسلامي
يؤمن المنظور الإسلامي بقدرة الإنسان على الاختيار والتجاوز، ولكنه في الوقت نفسه يعترف بالعوامل البيولوجية والنفسية والبيئية التي قد تؤثر على الفرد. ولعلَّ النص القرآني جاء شاملاً لجوانب عديدة من حياة الإنسان، بما في ذلك مسألة الابتلاء والصدمة والمعاناة، وطرائق التفاعل النفسي معها. فيما يلي عرضٌ مفصل للرؤية القرآنية حول هذه القضية، مع الأمثلة والشواهد:
أولاً: مفهوم الابتلاء وعلاقته بالصدمة في القرآن
الابتلاء سنّة إلهية كونية
يشير القرآن الكريم إلى أنّ حياة الإنسان لن تخلو من الفتن والابتلاءات؛ يقول الله تعالى:
{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ }
(سورة البقرة، الآية 155)
تتجلّى الصدمات في أشكال عدّة: فقدان المال، فقدان الأحبة، التعرّض لخطر أو عنف… إلخ. ويذكر المفسّرون أنّ حكمة هذا الابتلاء هي اختبار مدى صبر الإنسان وتوكّله على الله، ومدى استعداده للسعي والعمل لتغيير واقعه أو تقبّل قدره.
التنوع في شدّة الابتلاء
يقول الله تعالى:
{ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً }
(سورة الأنبياء، الآية 35)
فلا يقتصر الابتلاء على المصائب والشدائد (الشرّ) بل قد يكون بالخير والنعمة أيضًا. وكما أنّ بعض الصدمات تأتي في شكل عنف أو تجارب قاسية، فإنَّ بعض الابتلاءات تأتي في شكل وفرة مادية أو مكانة اجتماعية قد يسيء الإنسان توظيفها.
ثانيًا: التباين في الاستجابات: حرية الاختيار مع الإقرار بالعوامل المؤثرة
الحرية والمسؤولية الشخصية
ينصّ القرآن على أنّ للإنسان حريةً في توجيه سلوكه، ولو ضمن حدود معينة؛ يقول الله تعالى:
{ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً }
(سورة الإنسان، الآية 3)
يشير هذا النص إلى أنّ الله يبيّن الطريق، ولكن يبقى الاختيار للإنسان في السلوك الإيجابي أو السلبي.
الدوافع الداخلية والتأثير الخارجي
يعترف المنظور الإسلامي بأنّ الإنسان يحمل في ذاته قابلية للخير وقابلية للشر، كما يقول الله تعالى:
{ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا }
(سورة الشمس، الآيتان 7-8)
وهذه القابلية تتشكل وتتفاعل مع البيئة المحيطة والثقافة والأسرة والمجتمع، ما يجعل استجابة الأفراد للصدمة مختلفة، فمنهم من يُغلِّب “الفجور” ومنهم من يُغلِّب “التقوى”.
كما أنّ القرآن يشير إلى دور الشيطان والنفس الأمّارة بالسوء كعوامل داخلية/خارجية تُغري الإنسان بسلوك العنف أو الشر. ومع ذلك يؤكّد على قابلية الإنسان لمقاومتها بالاستعانة بالله وبالإرادة الواعية.
لا يغيّر الله ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم
يقول الله تعالى:
{ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ }
(سورة الرعد، الآية 11)
تُبرز هذه الآية مبدأ أنّ التغيير—سواء للخروج من الأزمة أو التعامل مع الصدمة—يتطلب جهداً داخلياً يقوم به الإنسان، أي أنَّ الإنسان يمتلك دورًا محوريًا في كيفية إدارة ألمِه وتحويله إلى قوة بناء أو تدمير.
ثالثًا: نماذج قرآنية
قصة نبي الله أيوب عليه السلام
عاش أيوب ابتلاءً شديدًا في صحته وماله وأهله، لكنه واجه هذه المحنة بصبر وثقة بالله، كما ورد في القرآن:
{ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ }
(سورة الأنبياء، الآية 83)
هذا النداء يدلّ على اعترافه بالألم والضُّر، لكنه لم ينسب الظلم إلى الله، بل ظلّ موقنًا بحكمة ربّه. وفي نهاية المطاف:
{ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ }
(الأنبياء، 84)
إن أيوب رمز قرآني لمن يواجه الصدمة بالتضرّع والتأمل واستلهام المعنى من الابتلاء، فيُحافظ على إنسانيته ويخرج أشدّ قوّة وأعمق تجربة.
قصة نبي الله يوسف عليه السلام
حُرم يوسف من أسرته وأُلقي في البئر وتعرّض للظلم والسجن. بدل أن يتحول إلى ناقم أو قاتل، ظلّ متشبثًا بالمعرفة والإحسان:
{ مَعَاذَ اللَّهِ } (يوسف، 23)، ردًّا على مراودة امرأة العزيز له.
انتهت قصة يوسف بتبوؤه مكانة عالية في المجتمع المصري آنذاك. هذه القصة مثال حيّ على أن الصدمة، إذا وُوجهت بالتقوى والصبر والمعرفة، يمكن أن تقود إلى نضج كبير.
تأمّل وتفكّر في الآيات
يدعو القرآن في مواضع كثيرة للتفكّر والتدبّر في خلق السماوات والأرض والنفس البشرية. وفي سياق الصدمات، يأتي التفكّر كوسيلة لفهم حكمة الله في الابتلاء، ما ينقل الإنسان من دائرة “الضحية” إلى دائرة “الباحث عن الحكمة والمعنى”.
{ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا… } (آل عمران، 191)
رابعًا: من يستسلم للظلم أو يتجه للعنف بعد الصدمة: نماذج وتحذيرات قرآنية
نموذج قابيل وهابيل
تعرّض قابيل لما يمكن تسميته “صدمة نفسية” حين قُبل قربان أخيه هابيل ولم يُقبل قربانه. بدل أن يتعلم الدرس ويبحث في نفسه عن جوانب النقص، استجاب للغيرة والحقد فقتل أخاه. يصوّر القرآن تحوّل القابلية البشرية إلى شرّ تام في غياب الرقابة الداخلية والتقوى.
{ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ }
(سورة المائدة، الآية 30)
العناد والاستكبار
يحذّر القرآن من أنّ بعض الناس، حين تُصيبهم مصيبة أو حين يتعرّضون للابتلاء، قد يختارون طريق العناد بدل التوبة والرجوع إلى الحق، كما حصل مع فرعون الذي أصابته آيات وآفات (نوع من الصدمات المجتمعية) ولكن:
{ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا }
(سورة النمل، الآية 14)
وهذه الصورة تبرز أنّ التأثر بالصدمة واتخاذ رد فعل عنيف أو متكبّر يعد مسارًا اختياريًا أيضًا، وإن كان متأثرًا بتراكمات نفسيّة واجتماعية.
خامسًا: آليات قرآنية للتعامل الإيجابي مع الصدمة
الصبر
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ }
(سورة البقرة، الآية 153)
الصبر في المنظور الإسلامي لا يعني الاستسلام؛ بل هو ثبات ومثابرة مع السعي لتغيير الواقع أو تقبّله لحكمة إلهية.
الدعاء واللجوء إلى الله وذكر الله
جعل الله تعالى في الدعاء متنفسًا للإنسان ومخرجًا من ضيق الصدمات، كما في قوله تعالى:
{ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ }
(سورة النمل، الآية 62){ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}
(الرعد: 28)
وهذا يماثل البُعد الروحي الذي تحدّث عنه فيكتور فرانكل—من زاوية أخرى—في تركيزه على “البحث عن معنى”.
التفكّر والتدبّر
شجّع القرآن على العقلانية والتدبر فيما يمرّ بالإنسان من أحداث، والتعلّم منها. وهذا التفكّر قد يتحول إلى فعل بنّاء أو منظور فلسفي عميق للأمور.
{ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَٰمًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَٰطِلًا سُبْحَٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ}
(آل عمران – 191)
التوكل على الله
وهو الثقة بحسن تدبير الله، مع الأخذ بالأسباب الدنيوية. يقول تعالى:
{ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا }
(سورة الطلاق، الآية 2)
هذه الثقة تسهم في بناء مرونة نفسية (Resilience)، وتدفع الإنسان إلى التحرك نحو الحل.
التراحم والتكاتف الاجتماعي
يولي القرآن أهمية كبيرة للتراحم بين أفراد المجتمع، مثل قوله تعالى:
{ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ }
(سورة المائدة، الآية 2)
الدعم الاجتماعي يعمل كعامل حماية للفرد في أوقات الشدّة والصدمة.
سادسًا: العلاقة بين المنظور القرآني والتحليل النفسي الإيجابي
مبدأ المعنى
يتلاقى مفهوم البحث عن المعنى لدى فيكتور فرانكل مع التعاليم القرآنية التي تؤكد أنّ الابتلاء ليس عبثيًا، بل لحكمة إلهية قد لا يدركها الإنسان في حينها، ولكنّها تصقل شخصيته وتفتح أمامه آفاق الإيمان والفهم.
المساحة بين الحتمية والاختيار
كما سبقت الإشارة في المدارس النفسية، يعترف القرآن بالعوامل الطبيعية (الجينات، البيئة…) ولكنّه يقرنها بقدرة الإنسان على توجيه إرادته نحو الخير أو الشر. وتنبثق من ذلك مسؤولية أخلاقية واجتماعية.
الأمل والتفاؤل
يتجسّد في قول الله تعالى:
{ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا }
(سورة الشرح، الآيتان 5-6)
ينسجم هذا مع النظرة الإيجابية (Positive Psychology) التي تشجّع الفرد على إدراك الفرص في وسط الأزمة، واكتشاف “النمو بعد الصدمة” (Post-traumatic Growth).
خاتمة جامعة
إنّ اختلاف استجابات الأفراد للصدمة ليس وليد عامل واحد فقط، بل هو نتيجة تضافر العديد من العوامل الجينية والنفسية والبيئية والثقافية والإرادية. فبقدر ما تتحكم فينا ترسبات الطفولة وبِنية اللاوعي وتوجهاتنا البيولوجية، يظلّ الإنسان قادرًا على ابتكار ذاته والمضي نحو معنىً أعمق لحياته، كما يذهب فيكتور فرانكل. وفي الوقت ذاته، لا يمكن إنكار أنّ التحليل النفسي الكلاسيكي—كما طرحه فرويد ويونغ—قد صاغ أسس فهم آليات النفس البشرية وكيفية تعاملها مع الصدمات والاضطرابات الداخلية.
في نهاية المطاف، يعتمد ما إذا كانت الصدمة تصنع من الإنسان فيلسوفًا أو قاتلًا على مدى تكامله النفسي واستخدامه للموارد المتاحة داخليًا وخارجيًا. قد يقود الوعي بالنفس والبحث عن المعنى إلى تجاوز الصدمة نحو آفاق رحبة من النمو والتحوّل الإيجابي، بينما قد يفضي الانغماس في الظل والخضوع للصراعات الداخلية والكبت إلى مسار عدواني ومدمّر. في ظل ما تقدّم، يصبح الدور العلاجي/التوجيهي والاجتماعي في مرافقة ضحايا الصدمات بالغ الأهمية، حيث يمكن دعمهم لاكتشاف المعنى، وتأهيلهم نفسيًا واجتماعيًا، وإطلاق طاقاتهم البنّاءة بدل أن تنقلب إلى أدوات هدمٍ للذات أو للآخرين.
من المنظور القرآني، لا تحكم “الصدمات” مسار الإنسان حكمًا جبريًا؛ إذ ثمة فرصة للتعلم والنهوض والتحول الإيجابي. في الوقت نفسه، يدرك النص القرآني أنّ الإنسان ضعيف ويحتاج إلى سند روحي ومعرفي واجتماعي كي يواجه الابتلاء. لذا، تختلف الاستجابات:
- فمنهم من يجعل من محنته سُلّمًا للرقي الروحي والعقلي، فيغدو مفكرًا أو ناشطًا في الخير والدعوة والإصلاح.
- ومنهم من يسمح للضغوط والصدمات أن تسيطر على نفسه وتتجذر فيها مشاعر الحقد والغضب، فينحرف إلى طرقٍ سلبية أو حتى إجرامية.
وهذا يلتقي مع ما أشار إليه علم النفس الحديث من تعددية العوامل المؤثرة في سلوك الإنسان، وأنّ وجود الإمكانات لا يعني حتمية مآل معين ما لم يمارِس الفردُ خياراته الواعية.
إنّ القوة الدافعة من منظور إسلامي تكمُن في:
- الإيمان بمعنى أعلى للوجود: فالحياة رحلة ابتلاء تُصقل فيها إنسانية الفرد.
- الصبر والإرادة: حيث الصبر فعلٌ إيجابي يتضمن المقاومة والسعي والرضا الواعي، لا الخنوع.
- طلب المعونة من الله: استلهام قوّة روحية تحرر الفرد من الانغلاق في الذات.
- التعلُّم والتدبر: استخراج الدروس من الأحداث المؤلمة لتحويلها إلى منطلق للمراجعة والتصحيح.
بهذا تتكامل الرؤية القرآنية مع الرؤى النفسية الحديثة؛ فتقدّم بعدًا روحيًا وأخلاقيًا يعمّق فهمنا لنفوسنا، ويحثّنا على اغتنام صدمات الحياة للتحوّل إلى إنسان أكثر عمقًا ونقاءً، لا إلى أداة هدم للذات أو للآخرين.
كتب بواسطة تشات جي بي تي